من مفتتح كتابها الموسوم «السيّدة مريم في القرآن الكريم، من النص إلى الخطاب» (دار الساقي ــــ 2022)، في طبعته الثانية المنقّحة والمزيدة بعد الأولى التي صدرت عام 2010، وبعد الطبعة الإنكليزية عام 2014، المستندة إلى أطروحة قُدمت في عام 2006 لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة تورنتو الكندية، تضعنا حُسن عبود في حضرة مفهوم التأويل سبيلاً إلى بحثها. التأويل الذي عدّه فيلسوف قرطبة، ابن رشد، في «فصل المقال»: «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يُخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز، من تسمية الشيء بشبيهه وبسببه، أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عُدت في تعريف أصناف الكلام المُجاز». وبجانبه يأتي مفهوما النص والخطاب، المنتميان إلى حقل الدراسات الألسنيّة. ويفترض الخطاب وجود السامع الذي يتلقّاه، بينما يتوجه النص إلى متلقّ غائب يتلقّاه من طريق عينيه قراءة، أي أن الخطاب نشاط تواصلي يتأسّس: أولاً، على اللغة الملفوظة بينما النص مدوّنة مكتوبة، وثانياً، الخطاب لا يتجاوز سامعه إلى غيره، أي أنه مرتبط بلحظة إنتاجه بينما النص له ديمومة الكتابة، فهو يُقرأ في كل زمان ومكان. وترى الكاتبة في تقديمها أن القرآن يمارس تأثيره وفاعليته بوصفه خطاباً، كما أن للسيّدة مريم في الرؤية القرآنية خطاباً، وهو المتشكّل في الحقبة المكية الوسطى من تاريخ التنزيل (أي بين عامَي 616 و617)، وفاقاً للتقسيم الزمني (الكرونولوجي) الذي اقترحه المستشرق الألماني تيودور نولدكه (TH. Nöldke) كاتب «تاريخ القرآن» (1860) في أجزائه الثلاثة.

المقاربة المقترحة هي مقاربة بيانيّة لفهم بناء السور القرآنية في تركيبها وتعدّد أصواتها «بصفتها نصاً ومن ثم بصفتها خطاباً في سيرورة تطور»، بغرض الوصول إلى فهم مختلف عما هو سائد، بمساعدة العلوم الإنسانية الحديثة وما توفره من أدوات معرفية، في متابعة لمسار من الدراسات النسوية التي قاربت النص المقدّس من وجهة نظر المرأة وفاعلية حضورها فيه، كما فعلت الباحثة المغربية، أسماء المرابط، في «القرآن والنساء: قراءة للتحرر» (الرباط، 2010)، وبنت الشاطئ المصرية، عائشة عبد الرحمن، «في المفهوم الإسلامي لتحرير المرأة» (1967)، واستفادة من الدراسات التي رصدت الصلة بين الأدب والكتاب المقدّس، ورائدها في ذلك الناقد الأدبي الكندي، نورثروب فراي (N. Frey)، في «المدوّنة الكبرى: الكتاب المقدّس والأدب» (1990)، و«كلمات ذات قوة: الدراسة الثانية للكتاب المقدّس والأدب» (1990).
رغبة الكاتبة هي تقديم نظرة مختلفة إلى حضور السيدة مريم في القرآن الكريم وتوكيد أهمية العنصر النسائي في الإسلام، ومريم تحديداً بمثابة نقطة التقاء وتقارب بين المسيحية والإسلام. لذا، تشير الباحثة الألمانية أنجليكا نويفرث (A. Neuwirth) أستاذة الدراسات القرآنية، في المقدّمة المخصّصة للطبعة الإنكليزية إلى أن عبود اختارت مقاربة غير تقليدية أثبتت جدارتها في تمييز النص النهائي للقرآن «بوصفه متجاوزاً لطبقاته التاريخية»، ونجحت في «موضعة القصص في سياقها الزمني الصحيح، أي ما قبل القرآني»، ما يفتح الباب واسعاً على عملية التناص (Intertextuality)، أي إلى تلك العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني، بحسب التعريف الأكاديمي، تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبية، وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة.
وفي تقريظه لجهد الباحثة، يعتبر رضوان السيّد، الذي يشغل حالياً منصب عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي في «جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية» (الإمارات)، أنها نجحت في تقديم شخصية مريم «بوصفها نموذجاً متفرّداً للسيّدة القدسيّة، ونموذجاً للمرأة بعامة في فهم القرآن لها وفهم علائقها الأنثوية والجندرية والإنسانية عامة».
مدار البحث إذاً «سورة مريم» (القرآن الكريم، 19)، فتعرضها عبود في شكل وحدات أدبية، بغرض فحص علاقة الآيات والوحدات بعضها ببعض، وتبرز القسم القصصيّ (بشخصياته الرئيسة: زكريا ومريم وإبراهيم)، والقسم الحجّاجي، لتخلص إلى أن السورة «تتمتع بوحدة عضوية وشعورية متماسكة العناصر في الشكل والمحتوى». وتشير إلى أن نص البشارة يتناص مع إنجيلَيْ لوقا ومتى، والشكل الشعري مع قصيدة المدح الجاهلية. وهي تقدّر أن ما يوحّد قسمَي السورة هو عبارة «الرحمن» (الإله الواحد)، وهو الاسم الآرامي للأصل «رحمنان» المعروف في جنوب الجزيرة العربية للإله التوحيدي، ويظهر في النقوش السبئية الحميرية والنصوص اليهودية والمسيحية، ما يفضي للقول بانتماء دين محمد إلى دينَي التوحيد السابقين عليه، كما تُوحد بين الأديان السماوية الثلاثة فكرة الرحمة، وأن الاسم استُبدل في الفترة المدنية بكلمة «الله».
تظهر مريم فريدةً في مقامها بإزاء ومقارنة بالشخصيّات النسائية الأخرى الوارد ذكرها في القرآن، إذ هي الوحيدة المناداة باسمها «يا مريم». وتركز الباحثة على الدلالات التي تشي بها قصة بشارتها وحملها، وأبرزها فكرة الخصوبة والوضع «بين النخلة المحمّلة بالرُّطب والنهر الذي تفجّره المياه». ويُشير حملها إلى «قوة الأنثى في المقدّس» وتستنتج أن وصف أمومة مريم يمثل الطريق لفهم مقام السيّد المسيح النبويّ من جهة، ومصدر للرحمة الربانية للمؤمنين من جهة أخرى.
تجد في علاقة عيسى بأنصاره الحواريين شبهاً لعلاقة محمد بأنصاره الأوس والخزرج في المدينة


والحال، لا يقتصر عمل الكاتبة على إخضاع سورة مريم للقراءة البيانية، بل هي أيضاً مجال للنظر في تركيب القرآن وتطور دعوة النبي محمد وجداله مع أصحاب الديانات الأخرى. ورغم أن السورة مُشكّلة من وحدات متنوعة البُنية، إلا أنها مُقيّدة في الموضوع. وفي تشريحها لسورة آل عمران (الآيات 48 إلى 54) تجد الفرصة سانحة كي تؤكد الخيوط الرابطة بين الإسلام والمسيحية، فتجد في علاقة عيسى بأنصاره الحواريين شبهاً لعلاقة محمد بأنصاره الأوس والخزرج في المدينة، وهذا يفيد بأن «موقف النبوة هو موقف واحد»، ويُعد هذا، في زعمها «أفضل مثال على دمج مستويين من القراءة: مستوى مسيحي ومستوى إسلامي، فيقرأ الأول عبر مفاهيم وتعابير الثاني». ثمة ملاحظة مهمة توردها الكاتبة حول اصطفاء مريم بنت عمران في المرحلة المبكرة من الهجرة إلى المدينة، إذ إن آل عمران ينحدرون من نظام أمومي مثلهم تماماً مثل آل إبراهيم في هذا الاصطفاء، و«هذا قد يشير إلى أن النسب الأمومي كان ولا يزال مأخوذاً به في مجتمع ما قبل الإسلام». في ختام دراستها القيّمة، تشدّد عبود على «التراث الشعائري الروحي المشترك بين المسيحية والإسلام»، وترى أنّ مريم تمثل النموذج الكوني للحب الأمومي، وسيرتها وموقعها يساعداننا في فهم مكانة المسيح في الدين الإسلامي. وقد أضحت هذه الصِّدّيقة المُبجّلة رمزاً للإخاء والمحبة، يحتفل اللبنانيون ببشارتها في 25 آذار (مارس) من كل عام في عيد وطني رسمي على قلب واحد.