حزمت حقائبي، سأخرج من بيتي أنا أيضاً. عدت لسنوات حين باع الجميع بيوتهم، واحداً بعد آخر، كان سعر البيت يساوي أحلام رجل لم تطلع عليه الشّمس.
«وأخيراً سأقول للفقر اغربْ عنّي»، قال فرحان، وهو يفتح فمه كالتمساح، ويبتلع برميل هواء. كانت نظرات بائسة غاضبة ترشقه بالشتائم حيناً، وباللمز حيناً آخر، وقد باع بيته في قلب القرية. لكن سرعان ما لحقت فرحانَ عرباتُ أخرى، ونزح الجميع إلى الشتات المجهول.
وفي ليلة وضحاها، أصبحت القرية مثل كهوف الغربان، وكنت النورس الوحيد القابض على الأرض. الغرباء يلتهمون قريتي بيتاً بيتاً، بثمن بخس، وكالجراد ينتشرون في السّوق، في المقهى، في البحر، على الأرصفة، وفي المتنزّه الذي كنّا نلعب فيه. ما أبشع الهواء الذي يأتي مشبّعاً برائحة طقوسهم السّوداء!

فريد ستونهاوس ــ «الرحيل» (أكريليك على قماش مشمّع)

كنت ببساطة مثل فراشة الحقول، أحتفظ بتذكار كلّ الأشياء في عيني، السّماء الزرقاء، صهيل الخيل، غناء النخيل، زخّات البحر، قصص السّمر، وحكايات اللؤلؤ. وها أنا اليوم الغريب الذي يتسكّع في الشّوارع، يفرّ قسراً من الجحيم.
سألت صفيّة قبل أن يطلع الصّباح، ماذا سأقول لأحفادي عن بيتنا القديم؟ عن قرية يخبئ قمرها ألحان الموج؟ ماذا ادّخرت لهم من بقايا عطرها، من همسات أعشاشها، من ألوان تلالها، قبل أن ترحل الأسماء والشّوارع والجدران؟
خرجت من البيت، ليس بيدي شيء أتركه علامة على هذا البيت الذي ربّما أعود إليه في يوم ما، كلّ ما عندي هو حسرتي، دموعي التي تتصبّب. فكّرت، لو تنغرس دمعة عند عتبة البيت، فتكبر شجرة سدر، تفوح منها رائحة الزمن الطيّب، وتبقى شاهداً على وجوه حنطيّة كانت هنا.
في تلك اللحظة، كنت أجرجر حقيبتي، كعصفور يبحث عن مأوى وسط الدخان! عيون الذئاب تتلصّص من النوافذ والشّرفات، تنهش جسدي، وأفواههم تعطس ضحكات شامتة، قميئة.
«اخرجْ من حارتنا، وابحثْ لك عن حظيرة تُؤويك، أيّها..!»
ما أصعب أن أحمل التاريخ فوق كتفي! وأمشي في دهاليز لم تعد تعرفني! وجدران تغضّ بصرها عنّي، وربّما – بل أعتقد - تبصق على وجهي!
خطواتي متعبة، وقلبي حرائق مشتعلة. وقبل الخطوة الأخيرة التي سترميني خارج بوابة القرية، أفقت على صوت فرحان، كارتطام حادّ، ويداه تمتدّان من وراء الغيم، وسمرته تتجعّد بالحزن: «إلى أين يا لقمان؟ إلى أين؟».
وقفتُ مشدوهاً، وعاد الصوت يتكرّر، يدوّي مثل أجيج الرّعد، وأنا كسفينة تائهة في لجّة الزّوبعة، غرقتُ في الجهات، لا أدري في تلك اللحظة أين أنا! على حافة البرزخ، أم غادرت الجحيم؟
لم أستفق إلّا وقدمَايَ تنكصان إلى الوراء، أعود خطوة بعد خطوة، وأنا أشدّ بقوّة على يد زوجتي.
- إلى أين؟
- سنعود إلى البيت، سنعود، يا صفيّة.

* المنامة/ البحرين