تقديم وترجمة: عز الدين بوركةيُعد الفيلسوف الفرنسي لوك فيري (1951) من الفلاسفة الغربيين المعاصرين الأكثر شيوعاً وتأثيراً، وقد شغل منصب وزير التربية والتعليم في فرنسا في عهد رئيس الوزراء جان بيار رافاران ما بين عامي 2002 و2004. وهو من بين الفلاسفة الجدد الذين أحدثوا تحولاً في مسار الفكر الإنساني المعاصر، إلى جانب كل من أندري كونت سبونفيل وميشال أونفري، متأثراً بفلسفات متعددة لمن صاحبهم أو تأثر بهم أمثال نيتشه أو دريدا أو فوكو أو دولوز.
لا تتمتع كتابات لوك فيري بنسقية معيّنة تضع فكره في خانة فلسفية أو فكرية معينة، بقدر ما تُعد فلسفته تجدُّداً يسعى إلى القبض على روح الإنسان المعاصر بكل تمفصلاته، بغيةَ رسم معالمه ومعالم العالم الذي يعيش فيه. لهذا لم يتوانَ على اعتبار الفلسفة عقيدة للخلاص، لخلاص هذا الإنسان المعاصر في كتابه «تعلم الحياة»، واضعاً أصبعه على مكامن الخلل والانزياح والتجدد عبر مؤلفاته المتعددة بدءاً من نشر مؤلفاته عام 1985 على رأسها «مقال في مناهضة الإنسية المعاصرة»، حيث ينتقد الفكر الفلسفي السائد، ليُصدر في ما بعد كتابه «النظام الإيكولوجي الجديد»، ثم أحد أهم مؤلفاته وأكثرها جدلاً: «الإنسان-الإله أو معنى الحياة».
لم يقتصر توجه لوك فيري الفلسفي على نقد ودراسة الإنسان المعاصر، بل سعى أيضاً للاهتمام بالجانب الفني والاستيتيقي (الجمالي) الذي يرى بأنه منطلق مهم لفهم الذات الإنسانية. كما هو معلوم، تزامنت ولادة الفلسفة الإغريقية، مع نوع من التفكير في الجمال الطبيعي، والفني. لم ينفصل التفكير الإنساني قط عن التفكير في الجمال والجميل، وإن انتظر التفكيرُ البشري إلى حدود انعطافات القرن الثامن عشر، كي يحظى الفن باستقلالية فلسفية، إذ سنبدأ بالحديث عن الإستيتيقا أو فلسفة الجمال. من هنا يسعى لوك فيري في مؤلفه «ميلاد الإستيتيقا ومسألة معايير الجميل» إلى البحث عن إعادة تتبع لحظات الفن الثلاث العظيمة في الفكر الغربي منذ الإغريق إلى يومنا هذا. في العصور القديمة، تم تعريف العمل الفني وفقاً لمعيار الموضوعية. لقد تم تكليفه بمهمة محددة ودقيقة: أن يعكس النظام العظيم للكون. أما في القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، فكانت المشكلة هي التوفيق بين الذاتية، أي فكرة أن العمل يجب أن يرضي الإحساس، مع المعايير الكلاسيكية للجمال. أدى هذا إلى ولادة الجماليات في القرن الثامن عشر، لينتهي الأمر إلى ما يسمّيه لوك فيري «الفردية المتطرفة» التي ينادي بها الفن المعاصر.
وقد سبق لهذا الفيلسوف أن تطرّق إلى فلسفة الفن في مؤلفه الضخم «الإنسان الإستيتيقي» Homo Aestheticus، سنة 1990. هنا، يذهب إلى التعمق في المباحث الفلسفية الجمالية الكبرى التي أطّرت التفكير الغربي حول الجميل والجمال من فلسفة أفلاطون وبومغارتن وهيغل وكانط ونيتشه وشوبنهاور وغيرهم، بالإضافة إلى ولادة مفهوم الذوق وعلاقة التجسيد والروحاني في العمل الفني؛ غير أن إعادة نشره لهذا الكتاب الصغير «ميلاد الاستيتيقا» سنة 2013، كانت غايته كما يقول: «رغبة في إعادة كتابة هذا الكتاب [أي الإنسان الإستيتيقي] بطريقة تجعله مقروءاً من قبل غير المتخصصين في الفلسفة، وعامة الناس». في هذا العمل، حاول أن يلخّص مجمل فكره وفلسفته حول مفهوم العمل الفني ومفاهيم إستيتيقية شائكة على طول التاريخ، بشكل مختصر وموجز، كالجميل والجمال والحداثة والمعاصرة والذوق. أما بخصوص ميلاد الإستيتيقا، حسب لوك فيري، فالأمر عائد إلى ثورتين قلبتا تاريخ الفن وكانت لهما أثرهما البليغ على مفهوم العمل الفني والتلقي. يتعلق الأمر أولاً ببروز مفهوم «المؤلف»، ذلك الشخص العبقري، وثانياً بظهور «المتلقي»، ذلك الشخص صاحب الذوق، أو كما يسمّيه هذا الفيلسوف بـ«ابتكار الذوق». فالاستيتيقا، كما يخبرنا، هي ممارسة حديثة الوليدة.




1. إن تعريف العمل الفني بأنّه ما يرضي حساسية الإنسان، يثير حتماً مسألة معايير الجمال: إذا كان الذوق أمراً ذاتياً، كما يُقال، كيف يمكننا أن نُفسر أنّه – وعلى الرغم من كل شي - هنالك إجماع حول الأعمال العظيمة، كما هو الأمر [حادث] حول المناظر الطبيعية الجميلة؟
2. إن ظهور المتلقي بصفته إنساناً ذا ذوق والفنان باعتباره عبقرياً، وهذا الطابع المزدوج لعلاقتنا بالجمال، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة المعايير الجمالية والثورة الجمالية.
3. تكمنُ مفارقة العمل الفني في كونه تجسيداً للروحاني في المادي، وللملموس في الحسي، وللمثالي في الجسدي.
4. منذ فجر الفلسفة، عُرّف العمل الفني بأنه التجسيد، في مادة ملموسة، لفكرة عظيمة أو رموز عظيمة، لرؤية أخلاقية أو روحية للعالم.
5. بالنسبة إلى الإغريق، وقبل أي شيء، نُظِر إلى العمل الفني على أنه كون مُصغّر microcosme، نظام متناغم يُجسّد بشكل مصغّر الانسجام والعدالة وجمال الكل العظيم.
6. مَثَّلَ الفن الصباغي الهولندي أوّل فن إنسانيّ وعلماني، لم يعد يسعى إلى تمثيل المتعالي الكوني أو السماوي، لكنه سعى إلى (تمثيل) جوهر الإنسانية.
7. يهدف الفن المعاصر، كما صاغ ذلك ليوتار إلى إبراز وجود اللاممثل، [أي] إلى عرض أو إعمال كل ما من شأنه تحرير (عملية) تفكيك أوهام الميتافيزيقيا واللاهوت: اللاعقلاني، اللاواعي، الاختلاف، الجسد والجنس.
8. لم يعد يُعرّف الجميل، بالنسبة إلى الفنانين الحداثيين، على أنه خاصية جوهرية للموضوع، لكن على أنه ما يؤثر على الحساسية أو الذاتية.
9. بينما نتجه صوب الفن المعاصر، يُصبح العمل الفني تدريجاً، أقل أهمية من مؤلفه.
10. الفنان العبقري هو ذلك الشخص الذي يستطيع إثبات قدرته على تحويل خصائص فولكلورية معيّنة إلى إبداع قادر على لمس الكوني والتحدث إلى العالم بأسره. يمكننا أن نعزف مُوتسارْت في أعماق الصين والهند.
11. من النادر جداً سماع الناس يرددون: «مُوتسارْت فاشل» أو «باخ فاشل». يوجد، في واقع الأمر، نوع من الكونية للأعمال العظيمة.
12. من المفارقة أن الإجماع على الأعمال الفنية العظيمة أكبر من الإجماع على النظريات العلمية.
13. في الفنون التقليدية، كان من الضروري تقليد ما تم القيام به دائماً، حيث يُحظر الإبداع تقريباً.
14. منذ اللحظة التي اعتُبر فيها الفنان عبقرياً والأصالة أمراً حتمياً، أصبح التقليد خطيئة كبرى. تم الابتعاد عن المنطق القديم المتمثل في التقليد المتكرر للتقاليد والعادات.
15. ما هو الجميل لم يعد مبدأً متفوقاً على الإنسان، [بل] إنه بهاء الإنسان في حدّ ذاته.

المصدر:
Luc Ferry: La naissance de l’esthétique et la question des critères du beau, éd. Le figaro & Le Point, Paris 2013.