في عام 1857، وعلى جدار غرفة في فيلّا على تلة البالاتين في روما، عُثر على حفر بسيط لإنسان برأس حمار مرفوع على صليب، وقربه رجل تشير حركاته إلى أنه يتعبّد هذا الإنسان-الحمار، وتحتهما نقش باليونانية يقول: «ألكسامينوس يعبد ربه» أو «ألكسامينوس يعبد الرب». وفي غرفة مجاورة عُثر كذلك على حفر آخر يصوّر رجلاً شاباً وقربه نقش يقول: «ألكسامينوس المؤمن». ومنذ ذلك الوقت لم يحسم الجدال حول الرجل- الحمار المصلوب، وحول معناه. والاتجاه السائد أن الإنسان-الحمار تمثيل تشهيري ساخر ومعاد للمسيح والمسيحية. لكن هناك من رأى أن التصوير يمثل ديانة «أنوبيس»، أو ديانة الإله المصري «سيث» الذي يرتبط بالحمار. كما اقترح بعضهم أنّ الحفر من إنتاج مجموعة هرطقية من خارج الكنيسة الرسمية. لكنّ الأكثرية ظلت مع الرأي الذي يقول إنّنا مع تصوير ساخر معاد للمسيحية.

رسم لخربوشة ألكسامينوس والمشهد حولها

وفي سياق النقاش، منح الاسم ألكسامينوس، الذي ليس شائعاً جداً في اليونانية، القليل من العناية. وقد افترض أنه اسم يوناني بسيط غير مركّب. وتركزت محاولات فهمه من خلال جذره اليوناني. لكن هذا الطريقة لم تدفع بنا ولو خطوة واحدة إلى الأمام لفهم المشهد.
وفرضيتي التي أطرحها هنا تقول إن المشهد ليست له علاقة بالمسيحية، وإن الاسم مرتبط بالإنسان- الحمار المصلوب بقوة، وإن فهم أي واحد منهما فهماً سليماً سيؤدي مباشرة إلى فهم الثاني. وهذه الفرضية تقول إن الاسم (ألكسامينوس) مركّب وليس بسيطاً، وإنه تشكيل مقصود من اسمين اثنين، وإنه جرى التقاط الاسم اليوناني، غير الشائع، لجعله إطاراً يحوي هذا الاسمين معاً، أي أنّ الاسم اليوناني كان وسيلة لدمج الاسمين اللذين نتحدث عنهما.
أما الاسمان فهما: «إلكسي، إلكسيا» و«مينوس». وحين جرى دمجهما معاً وقُرّبا من الاسم اليوناني، حصلنا على «ألكسامينوس».
1- أما الاسم الأول فهو Elxai, Elkasia رسول فرقة الكسائيين Elkesaites التي حدّثنا عنها مؤرخو الكنيسة، والتي كان لها وجود في القرون الميلادية شمال البحر الميت في فلسطين، ووجود أكبر في ما يبدو في جنوب العراق أيام الحكم الفارسي.
2- وأما الاسم الثاني «مينوس»، فهو اسم «ماني» Mani رسول المانوية الشهير جداً. فاسم «ماني» باللاتينية هو: Manes, Manichæus
ومن الواضح أنّ تقريب الاسمين المدموجين من الاسم اليوناني أدّى إلى تحريف بسيط لهما.
وإذا صح هذا، فهو سيكشف لنا قصة خربوشة ألكسامينوس ومشهدها كله. سيكشف تاريخ الخربوشة، ومعنى وجود الحمار المصلوب، وسبب الخلط بين اسمي ألكسي وماني. وأول ما يكشفه أن الإنسان-الحمار المصلوب على علاقة بديانة ماني وديانة الكسائيين معاً.

الخلطة
أما الخلطة بين هذين الاسمين الشهيرين، فلسنا بحاجة إلى جهد كبير لتبريرها. فهي خلطة تقع في جذر المانوية. فنحن نعرف أنّ والد ماني كان من أتباع الكسي وطائفته، طائفة الكسائيين. بل نعرف أنّ ماني أيضاً كان عضواً في هذه الجماعة في طفولته. بل إن بعض المصادر المانوية تصف ماني بأنه «مصلح الكسائيين». صحيح أن هذه المصادر تخبرنا أيضاً أنه غادر طائفة الكسائيين، لكن علاقته بالكسي- الكسيا ظلت عميقة في ما يبدو. والحفر في تلة البالاتاين دليل حاسم على ذلك. أي أنه لم يكن هناك قطيعة بين المانوية والكسائيين بأي شكل من الأشكال. بل ولعل الحفر يشير إلى أن المانوية كانت في الواقع خلطة بين مبادئ الكسيا ومبادئ ماني الخاصة، أو تطويراً لها.

توقيت النقش
أما بخصوص التوقيت، فهناك خلاف حول توقيت الخربوشة. وتراوح التقديرات بين نهاية القرن الأول الميلادي ونهاية القرن الثالث الميلاد. لكنّ الأكثرية تميل إلى توقيتها ببداية القرن الثالث الميلادي.
لكن بناءً على فرضيتنا التي قدمناها أعلاه، فإن من المستحيل توقيتها بالقرن الأول الميلادي. ذلك أن روما لم تعرف «الكسي، الكسيا» وكتابه إلا في الرابع الأول من القرن الثالث الميلادي، أي في عهد البابا كالكستوس الأول Pope Callixtus I بين عامي 217 و222 م. في ذلك الوقت، وحسب هيبوليتيس، وصل إلى روما شخص يدعى ألكيباديس (ألسيبادس) Alcibiades من أفاميا في سوريا حاملاً معه «كتاب ألكسيا»، زعيم طائفة الكسائيين، والذي أنزله عليه ملاك محدد. عليه، فالخربوشة كُتبت بعد عام 2017 ميلادي بكل تأكيد بناءً على فرضيتنا.
أما «ماني»، فيفترض أن ديانته وصلت إلى روما بحدود عام 280 ميلادي على يد الرسول المانوي Psattiq القادم من مصر. بالتالي، تكون المانوية قد وصلت إلى روما بعد موت ماني تحت التعذيب عام 272 ميلادي. وفي هذا الوقت (280 م)، أو بعده، بدأت في الواقع الإجراءات المعادية للمانوية في روما باعتبارها فرقة عميلة للفرس. وهذا يعني أنه بعد قتل ماني على يد خليفة شابور، هوجمت ديانته في روما، ويا للمفارقة، باعتبارها أداة بيد الفرس. على أي حال، فهذه الإجراءات كانت الدليل على أن ديانة ماني أصبحت ذات حضور جدي في روما في ذلك الوقت.
بناءً عليه، فالنقش والحفر يعودان في غالب الظن إلى حدود عام 280 ميلادي. لكن من المحتمل أن تكون طلائع المانوية قد وصلت إلى روما قبل الرسول Psattiq لكنّ الأخبار عن هذا الوصول المبكر لم تصلنا.
وفي كل الأحوال، فإن تحديد تاريخ دقيق للخربوشة يعتمد على تفسيرنا للسبب الذي دعا نصير ماني الذي كتب الخربوشة إلى تقريب الخلطة بين اسمي الرسولين «ماني» و«الكسي» من الاسم غير الشائع (ألكسامينوس). فهل كان هذا نوعاً من التقية؟ أي: هل كان إظهار الخلطة بين الاسمين كما لو أنها اسم يوناني أصيل، نوعاً من التقية لحماية النفس؟ إن كان كذلك فالخربوشة تكون قد كُتبت في اللحظات التي صارت معاداة المانوية أمراً رسمياً أي في حدود عام 290 ميلادي وما بعده. أما إن كان الدمج بين الاسمين نوعاً من إعلان الهوية الدينية للجماعة المانوية، أي باعتبارها هوية تحوي في داخلها ديانة ألكسيا، فإن النقش يكون قد كُتب قبل ذلك، أي بين عامي 270 و280 م. وفي هذه الحال فهناك احتمال، حتى لو كان ضئيلاً، أن تكون الخربوشة كُتبت وماني ما زال حياً.
لكن من المحتمل أن الرجل خلط بين الاسمين من دون أن تخطر في باله علاقة هذه الخلطة بالاسم اليوناني النادر.

الحمار المصلوب
نأتي الآن إلى الحمار المصلوب. وكنت في ورقة سابقة قد اقترحت أن الكسائيين كانوا يتبعون إلهاً يتجسد بحمار. وأن الكسيا النبي كان ككاهن لهذا الإله يحمل لقب الإله ذاته. أي أن النبي حمل اسم إلهه. فكما يكون الإله يكون كاهنه كذلك. بالتالي، فالاسم الكسي- الكسيا اسم إله في الأصل. كما اقترحت أن هذا الاسم هو النطق الآرامي «الكَسِيع، أو الكسع»، وجمعها الكسعة، في العربية. وهذه الكلمة تعني الحمار: «الكسعة: الحمر السائمة» (لسان العرب). يضيف الأزهري: «قال أبو عبيدة: «الكسعة: الحمير» (الأزهري، تهذيب اللغة) أكثر من هذا تخبرنا المصادر العربية أن الكسعوم هو الحمار بالحميرية: «الكسعوم: الحمار، بالحميرية. ويقال: بل الكسعوم، والأصل فيه الكسعة، والميم زائدة» (لسان العرب). وهناك حديث نبوي يتحدث عن الكسعة: «ليس في الكسعة صدقة». والغالبية ترى أن الكسعة في الحديث هي الحمير. كما أن هناك قبيلة تدعى «الكسع» يبدو أنها كانت تتعبد للإله الكسيع أو الكسع في زمانها القديم. بذا، فصيغة «ألكسي» يجب أن تكون «الكسيء» وأنها النطق الآرامي لكلمة «الكسيع» حيث تحولت العين إلى همزة. لكن من المحتمل أيضاً أنها التحريف اليوناني للكسيع.
وكنت قد اقترحت كذلك أن «الحسيح، الحسح« زعيم طائفة المغتسلة، التي حدّثنا عنها ابن النديم في الفهرست، تصحيف للكسيع أو الكسع. أي أن الصيغة الأصلية عند ابن النديم هي «الكسيع» ثم صحّفها النساخ الذين لم يفهموا الاسم. وانطلاقاً من مشابهة، أو مماهاة، أفيفانوس لعدد من الطوائف في فلسطين بالكسائيين Elkasaites، فإنه يمكن القول: إن الشمسيين Sampsaeans، والأبيونيين Ebionites، والنازوريين Nazoraeans، إضافة إلى الأوسيانيين Ossaens، الذين يبدو أنهم على علاقة مع الأسينيين Essenes الشهيرين، كانوا يتعبدون لإله يتجسد في حمار. وفي الحقيقة، فإن الاسمين الأخيرين (الأوسيانيين والأسينيين) ربما يعنيان: الحميريون، أي عبدة أو الإله-الحمار، مباشرة. فالحمار هو «أسينوس» باليونانية.
وعلى أي حال، يمكن القول بأنّ هناك غفلة عند الباحثين عن اتساع نطاق ديانة الإله-الحمار. فقد كانت أهم ديانة في حوض البحر المتوسط وحوله على الإطلاق. وهي على علاقة بالإله سيث، والإله أوزيريس، والإله – الرسول العزير.
وما أكتبه هنا جزء من مشروع كتاب عن الإله- الحمار، أو الإله حمار- الوحش، الذي يكون في لحظة ما مصلوباً. ولعلّني أقول إنه لا يمكن إطلاقاً فهم ديانات المنطقة جميعها، لا أستثني ديانة واحدة منها، من دون فهم ديانة الإله ـــ الحمار.

* شاعر وباحث فلسطيني