هي باقة من كشكول المحبّين، نستلّها من التراث العربي والإسلامي في شهر رمضان لنستخرج من هذا التراث قيم الرأفة والمحبة والزهد والإيثار والحب على أنواعه الذي وصل فيه العاشقون والمتيّمون إلى الحلول في الحبيب كما ورد على لسان أبي منصور الحلاج: «واللَّه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي، وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِ». إنّها دعوة جديدة لزيارة هذا التراث وتنخيله من كل ما علق به من أدران التعصّب والتحيّز والطائفية والدعوات البغيضة لتحويله إلى أحزمة ناسفة وكرابيج تسوط ظهر عاشقين، أو نصّ عصيّ على التأويل يحرم أمّاً من رعاية أبنائها، بينما يحنو نبي العرب على ظبية أسيرة، ويغض التراث بأمّهات كتبه بألوان من العشق الممنوع. ليس من قبيل المصادفة أن يكون جلال الدين الرومي وشمس التبريزي بطلين في الرواية الغربية اليوم، فهما سليلا حضارة تكبر نصوصها في العقول الكبيرة، وتصغر في العقول الصغيرة كما يقول أدونيس. تراث روحي لم يتوقف يوماً عن رفد الإنسانية بالقيم التي لا يمكن لأحد أن يحتكرها أو أن يجعل من رموزها أبطالاً إيكزوتيكيين في رواية، أو من نسائها إماء في الحرملك كما صوّرتهن لوحات دولاكروا أو مخيلة الاستشراق: نستعرض في «كلمات» باقة من قصص الحبّ والتصوف والعبادة والحرية، مستلهمة من أمهات كتب التراث ومن كتاب للشاعر السوري أمارجي (ديوان العشق الصوفي) صادر عن «دار خطوط وظلال» (2021) جمع فيه الكثير من تراجم المحبّين وأشعار العاشقين
حديث النبي والظبية
مرّ النبي على قوم قد اصطادوا ظبية فشدّوها على عمود فسطاط. فقال: أين صاحب هذه؟ فقال القوم: نحن يا رسول الله. قال: خلّوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وترجع إليكم. فقالوا: من لنا بذلك؟ قال: أنا. وإن شئتم أوثقوني مكانها. فأطلقوها. فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمرّ بهم النبي - فقال: تبيعونيها؟ فقالوا: هي لك يا رسول الله. فقال: خلّوا عنها، فأطلقوها فذهبت تعدو في الصحراء فرحاً وهي تضرب برجليها في الأرض.
(«البداية والنهاية» لابن كثير)

شابور بويان ــــ «منصور الحلاج مشنوقاً» (مواد مختلطة على ورق هانيمول ــــ 17.3 × 24.47 سنتم ــــ 2018)


علي بن أبي طالب والأرملة
نظر علي بن أبي طالب إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقُتل، وترك عليَّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس. فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلما أصبح، حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمَل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئاً للصبيان، فقالت: رضي الله عنك، وحكَمَ بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي وبين أن تعللي الصبيان لأخبز أنا، فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز، فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليٌّ إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقّم الصبيان من اللحم والتمر وغيرهما، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بني اجعلْ علي بن أبي طالب في حلّ مما أمر في أمرك، فلما اختمر العجين قالت: يا عبد الله اسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه، جعل يقول: ذُقْ يا علي هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحكِ هذا علي بن أبي طالب، فبادرت المرأة وهي تقول: وا حيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال: بل وا حيائي منك يا أمَة الله فيما قصّرت في أمرك.
(«مناقب آل أبي طالب» لابن شهر أشوب)

الجار ثم الدار
قال الحسن: رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتّضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسمّيهم وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه لمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثمّ الدار.
(«علل الشرائع» للصدوق)

علي بن الحسين والفقراء
كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدَّق به، ويقول: «إنَّ صَدَقة السِّرِّ تُطفِئُ غَضَب الرَّبّ .«فلما مات، تَبيَّن أنه كان يُعيلُ مِئة عائلة من عوائل المدينة، وكان أهل المدينة يقولون : «ما فقدنا صَدقَةَ السر حتى مات علي بن الحسين».
(«حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» لأبي نعيم الأصبهاني)

■ هكذا ينجو المخفّون
وقع حريق في المدائن؛ فأخذ سلمان الفارسي مصحفه وسيفه، وكانا كلّ ما في الدار، فخرج منها وقال: «هكذا ينجو المخفّون».
(«قاموس الرجال» للتستري)

عيشهم في التجلّي وبلاؤهم في الستر
سمعت مَنْصُور المغربي يَقُول: وافى بَعْض الفقراء حيّاً من أحياء العرب، فأضافه شاب فبينا الشاب فِي خدمة هَذَا الفقير، إذ غشي عَلَيْهِ فسأل الفقير عَن حاله فَقَالُوا: لَهُ بنت عم وَقَدْ علِقها فمشت فِي خيمتها فرأى الشاب غبار ذيلها فغشي عَلَيْهِ، فمضى الفقير إِلَى بَاب الخيمة وَقَالَ: إِن للغريب فيكم حُرمةً وذماماً وَقَدْ جئت مستشفعاً إليك فِي أمر هَذَا الشاب فتعطّفي عَلَيْهِ فيما هُوَ بِهِ من هواك، فَقَالَتْ: سبحان اللَّه أَنْتَ سليم القلب، إنه لا يطيق شهود غبار ذيلي فكيف يطيق صحبتي؟ واعلَمْ أنّ عوام هذه الطائفة عيشهم فِي التجلي وبلاؤهم فِي الستر، وَأَمَّا الخواص: فَهُمْ بَيْنَ طيش وعيش، لأنهم إِذَا تجلى لَهُمْ طاشوا وإذا ستر عَلَيْهِم ردوا إِلَى الحظ فعاشوا.
(«الرسالة القشيرية» للقشيري)

لباس الزهّاد
لبس الشبلي يوم العيد ثوبين جديدَين، فرأى الناس يسلّم بعضهم على بعض على قدر ثيابهم، فذهب وطرح ثيابه في التنّور، فقيل له لِمَ فعلت هذا؟ قال: أردت أن أحرق ما يعبد هؤلاء. ثم لبس الثياب الزرق والسود وأنشأ يقول (من البسيط):
تزيّنَ الناس يوم العيد للعيدِ وقد لَبِستُ ثياب الزرقِ والسودِ
أعددتُ نَوحاً وتعديداً وباكيةً ضِدّاً من الراح والرَّيحان والعودِ
فأصبح الناس مسروراً بعيدهِمُ ورُحت فيكَ إِلى نَوحٍ وتعديدِ
أصبحت في ترح والناسُ في فرح شتّان بيني وبين الناس في العيدِ
(«سلوة العارفين وأنس المشتاقين» لأبي خلف الطبري)

بيت الشعر القاتل
قال أبو نصر السراج يقول: كان سبب وفاة أبي الحسين النوري أنه سمع هذا البيت:
لا زلت أنزل في ودادك منزلاً تتحيّر الألبابُ عند نزولهِ
فتواجد النوريّ وهام في الصحراء فوقع في أجمة قصب قد قُطعت وبقي أصولها مثلُ السيوف، فكان يمشي عليها ويعيد عليها ويعيد هذا البيت إلى الغداة والدم يسيل من رجليه. ثم وقع مثل السكران، فتورّمت قدماه. ومات.
(«الرسالة القشيرية» للقشيري)

لدغ الرمّان
وحكي عن إبراهيم الخواص قال: كنت مرة في جبل لكّام، فرأيت رماناً، فاشتهيته، فأخذت منه واحدة، فشققتها، فوجدتها حامضة. فمضيت وتركتها. فرأيت رجلاً مطروحاً وقد اجتمعت عليه الزنابير. فقلت السلام عليك: فقال وعليك السلام يا إبراهيم. فقلت كيف عرفتني؟ فقال من عرف اللّه عزّ وجلّ، لم يخفَ عليه شيء. فقلت: أرى لك حالاً مع اللّه عزّ وجلّ، فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير؟ فقال: وأرى لك حالاً مع اللّه تعالى فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان، فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة، ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا. فتركته ومضيت.

صلاة المحبّين
قال سجف بن منصور: دخلت على رابعة وهي ساجدة، فلما أحسّت بمكاني رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها. فسلّمتُ فأقبلت عليّ فقالت: يا بُني ألك حاجة؟ فقلتُ: جئتُ لأسلّم عليك، قال: فبكت وقالت: سترك اللهم سترك ودَعَت بدعوات ثم قامت إلى الصلاة وانصرفتُ.
(«صفوة الصفوة» لابن الجوزي)

والهة في وديان بيت المقدس
قال محمد بن سلمة: سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا في بعض أودية بيت المقدس إذ سمعت صوتاً يقول: يا ذا الأيادي التي لا تُحصى، ويا ذا الجود والبقاء متّع بصر قلبي من الجوَلان في بساتين جبروتك، واجعَلْ همّتي متصلة بجود لطفك يا لطيف، وأعذني من مسالك المتحيرين بجلال بهائك يا رؤوف، واجعلني لك في جميع الحالات خادماً وطالباً، وكن لي يا منوّر قلبي وغاية طلبي في الفضل صاحباً. قال ذو النون: فطلبت الصوت حتى ظهر لي، فإذا امرأة كأنها العود المحترق، وعليها درع من الصوف، وخمار من الشعر أسود قد أضناها الجهد وأفناها الكمد وذوّبها الحب، وقتَلها الوجد. فقلت لها: السلام عليك. فقالت: وعليك السلام يا ذا النون، فقلت: لا إله إلا الله كيف عرفت اسمي ولم تريني؟ قالت: كشف عن سري الحبيب فرفع عن قلبي حجاب العمى فعرّفني اسمَك. فقلت: ارجعي إلى مناجاتك، فقالت: أسألك يا ذا البهاء أن تصرف عني شرّ ما أجد، فقد استوحشت من الحياة. ثم خرّت ميتة. فبقيت متحيراً متفكراً. فأقبلت عجوز فنظرت إليها ثم قالت: الحمد لله الذي كرّمها. قلتُ: من هذه؟ فقالت: ألم تسمع بزهراء الوالهة؟ هذه ابنتي توهم الناس منذ عشرين سنة أنها مجنونة وإنما قتلها الشوق إلى ربّها.
(«صفوة الصفوة» لابن الجوزي)

محب المحبّين في قائمة جبريل
قال فارس النجار: بلغني أنّ إبراهيم بن أدهم رأى في المنام كأنّ جبريل عليه السلام قد نزل إلى الأرض، فقال له: لمَ نزلتَ إلى الأرض؟ قال: لأكتب المحبّين. قال: مثل من؟ قال: مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، وعدّ جماعات. قال: أنا منهم؟ قال: لا. فقلت: فإذا كتبتَهم فاكتُبْ تحتهم محبّ للمحبين. فنزل الوحي: اكتبه أوّلَهم.
(«حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» لأبي نعيم الأصبهاني)

سفَر المشتاقين
قال شقيق البلخي: رأيتُ في طريق مكة مُقعداً يزحف على الأرض فقلتُ له: من أين أقبلتَ؟ قال: من سمرقند. قلتُ: فكم لك في الطريق؟ فذكر أعواماً تزيد على العشرة، فرفعت طرفي أنظر إليه متعجباً فقال لي: يا شقيق ما لك تنظر إليّ؟ فقلت متعجباً من ضعف مهجتك وبُعد سفرتك. فقال لي: يا شقيق، أما بُعد سفرتي فالشوق يقرّبها، وأما ضعف مهجتي فمولاي يجمّلها، يا شقيق أَتَعْجَب من عبد ضعيف يحمله المولى اللطيف؟ وأنشد يقول:
أزوركم والهوى صعب مسالكه
والشوق يحمل من لا مال يسعدُه
ليس المحب الذي يخشى مهالكه
كلا ولا شدة الأسفار تقعدُه

تعريف الحب
قيل لأعرابية ما الحب؟ قالت: أخفى من أن يرى، وأبين من أن يخفى، كمونه في الحشا كمون النار في الحجَر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.
(«أعيان الشيعة» لمحسن الأمين).

إفطار المحبين
قال جعفر بن نصر: أمرني الجنيد أن أشتري له التين الوزيريّ فلما اشتريته أخذ واحدة عند الفطور، فوضعها في فمه ثم ألقاها وجعل يبكي ثم قال احملها، فقلت له في ذلك فقال: هتف بي هاتف، أما تستحي تركتها من أجلي ثم تعود إليها؟
(«إحياء علوم الدين» للغزالي)

نظرة في وجه المحبوب
قال أبو عبد الله الجلاء: كنت واقفاً أنظر إلى غلام نصراني حسن الوجه، كأنما أفرغ في قالب الجمال، فمرّ بي أبو عبد الله البلخي، فقال: أيش وقوفك هنا؟ فقلت: يا عم ما ترى هذه الصورة تعذّب في النار؟ فضرب بيده بين كتفيّ، قال لتجدن غبَّها (عاقبتها) ولو بعد حين. قال: فوجدت غبّها بعد أربعين سنة، أُنسيتُ القرآن.
(«تاريخ دمشق» لابن عساكر).

وجعلنا من الماء
من ألطف ما روينا في حال المحب عن شخص من المحبين دخل على بعض الشيوخ، فتكلّم الشيخ له على المحبة فما زال ذلك الشخص ينحل ويذوب ويسيل عرَقاً حتى تحلَل جسمه كله وصار على الحصير بين يدي الشيخ بركة ماء ذاب كله، فدخل عليه صاحبه فلم يرَ عند الشيخ أحداً، فقال له أين فلان، فقال الشيخ هو ذا، وأشار إلى الماء ووصف حاله، فهذا تحليل غريب واستحالة عجيبة حيث لم يزل ينحف عن كثافته حتى عاد ماء فكان أولاً حياً بماء، فعاد الآن يحيي كل شيء لأن الله قال: «وجعلنا من الماء كل شيء حيّ»، فالمحب على هذا من يحيا به كل شيء.
(«الفتوحات المكية» لابن عربي)

صلاة المجنون
قال أبو عبد الله المغربي: كنت في الطواف، فرأيت ولهان المجنون وهو يقول: حبك قتلني، وشوقك أيقظني، والاتصال بك أسقمني، فعدمت قلباً يحب غيرك وثكلت خواطر أنِست بسواك.
(«صفوة الصفوة» لابن الجوزي)

غفران المحبّ للمحبين
سمعت بندار بن الحسين يقول: رُئِي مجنون بني عامر في المنام بعد موته، وكان قد استغرق في حبّ امرأة وساح في البراري، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ما كان من الزلل، وجعلني حجة على المحبين.
(«الرسالة القشيرية» للقشيري)

له ثلاث ما رآني
حدثني أبو عبد الله الروذباري قال: دخلت درب الزعفراني، فرأيت فتىً قد صرع شيخاً، وهو يكلمه ويعضّ حلقه، فقلت له: يا فتى أتفعل هذا بأبيك؟ وظننته أباه، فقال: دعني حتى أفرغ منه ثم أحدثك بقصتي، فلما فرغ قلت: يا فتى ما ذنبه؟ قال: إن هذا يزعم أنه يهواني، وله ثلاث ما رآني.
(«مصارع العشاق» للسراج البغدادي).

توهّمت أنّك أنّي
حكي أنّ بعض المتحابين ركبا البحر، فسقط أحدهما في البحر وغرق، فألقى الآخرُ نفسه في البحر، فغاص الغواصون فأخرجوهما سالميْن. فقال الأول لصاحبه: أما أنا فسقطت في البحر، فأنت لمَ رميتَ نفسك؟ فأنشده: أنا غائبٌ بك عنّي، توهمت أنّكَ أنّي!
(«ديوان العشق الصوفي»، أمارجي، في ترجمة أبي عبد الرحمن السلمي)

شربة تقسّي القلب
قال أبو بكر الزقاق: تهت في تيه بني إسرائيل خمسة عشر يوماً، فلمّا وافيت الطريق استقبلني جندي، فسقاني شربة من ماء، فعادت قسوتها في قلبي ثلاثين سنة، وقيل إنّ أبا سعيد الخراز تكلّم في الورع، فمرّ بعباس بن المهتدي، فقال: يا أبا سعيد، تجلس تحت سقف أبي الدوانيق، وتشرب من بركة زبيدة وتتكلم في الورع، وأنشأ يقول:
وما تصنع بالسيف إذا لم تكُ قتّالا
فهلا صغتَ من حلية هذا السيف خلخالا
(«سلوة العارفين وأنس المشتاقين» لأبي خلف الطبري).

جفاف الثوب
حكي أن أبا يزيد (البسطامي) غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له، فقال له نعلّق الثوب في جدار الكروم، فقال: لا نضرب الوتد في جدار الناس، فقال: نعلّقه في الشجر، فقال: إنه يكسر الأغصان، فقال: نبسطه على الأرض، فقال: إنه علف الدواب لا نستره عنها، فولّى ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره حتى جفّ جانبٌ ثم قلبَه حتى جفّ الجانب الآخر.
(«الرسالة القشيرية» للقشيري)

ذهبتُ وأنا عمَر ورجعتُ وأنا عمَر
روي أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب، فكاد السراج يطفأ فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أفأنبّه الغلام؟ فقال: هي أول نومة نامها، فقام وأَخَذَ البطة وملأ المصباح زيتاً، فقال الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين! فقال: ذهبتُ وأنا عُمَرُ ورجعتُ وأنا عُمَرُ، ما نقص مني شيء.
(«إحياء علوم الدين» للغزالي)

موجود ليس بمفقود
كنت أسير في بعض حيطان البصرة، فرأيت شاباً مريضاً، أشعث أغبر، مستقبلاً للقبلة، يقول: قرة عيني طال شوقي إليك، وما آن أن ألقاك، فإلى متى تحبسني عنك؟ فقلت: يا شاب هذا الوقت الذي يطلب فيه الأحبة محبوبهم؟ فقال: الحبيب في كل الأوقات موجود، ليس بمفقود، بل هذا الوقت الذي تظهر الأحبة احتراقهم بحبيبهم، ويكشف المشتاقون كتمان سرائرهم، بهيجان نيران الاشتياق إلى مُناهم.
(«ديوان العشق الصوفي» لأمارجي، ترجمة مالك بن دينار)

إن كان فيها عتقُك فإن فيها رِقّي
أورد الإمام أبو الحسن يحيى بن نجاح في كتاب «سبل الخيرات» أنّ الخليفة أرسل إلى أبي ذر الغفاري صبرة فيها نفقة على يد عبد له، وقال إنْ قبِلها فأنت حرّ فأتاه بها فلم يقبَلها، فقال اقبَلْها يرحمك الله فإنّ فيها عتقي، فقال إنْ كان فيها عتقك فإنّ فيها رقّي.
(«أعيان الشيعة» لمحسن الأمين)