في عام 1968 عثر في كامد اللوز، في البقاع الغربي في لبنان، على كسرتَي فخار عليهما نقشان، يعودان إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقد لاحظ الجميع أن هناك شبهاً بين حروف النقشين وأبجديات الجزيرة، وعلى الأخص جنوب الجزيرة العربية. لم يبادر أحد إلى القول إنهما نقشان عربيان. ظل الاتجاه العام يحسبهما نقشين فينيقيين مع تأثيرات محتملة من الجزيرة العربية. وهكذا كانت وجهة نظر مانغفيلد ناشر النقشين، الذي وصف أبجدية النقشين بأنها كنعانية مبكرة أو بدائية: «احتوت [هذه] الأبجدية البدائية الكنعانية على حروف لم تكن موجودة في الأبجدية الكنعانية اللاحقة... وهذا ما يثبته حرف ثاء الذي جرى توثيقه هنا للمرة الأولى». يضيف: «وربما حدث التطور عن طريق جلب أحد أنظمة الكتابة الكنعانية القديمة إلى وسط الجزيرة العربية، حيث جرى الحفاظ عليه وتطويره، في حين مرّ النص الكنعاني الفعلي بتطور مختلف عن الخارج» (1). إذاً، فوجود الثاء لا يعني أننا مع كتابة غير فينيقية - كنعانية، فقد تكون كتابة كنعانية هاجرت إلى الجزيرة العربية، فتأثرت وتطورت ثم عادت إلى البقاع مختلفة عن الكنعانية التي لم تهاجر. وكما نرى، فهذا سيناريو معقّد وغريب، وخيالي في الواقع.
وقد ظل الأمر هكذا حتى اقترح ماندنهول بوضوح أنّ «الكسرة 2 من كامد اللوز عربية» (2). فشنّ عليه الثلاثي: رندسبيرغ، روبين، وهيو هنرغارد هجوماً عنيفاً مستخدمين محاولته غير المقنعة لفك لغز «مقطعية جبيل» للتشكيك في فرضيته وقراءته: «تصريح مثل أن الكسرة 2 من كامد اللوز عربية، ليس له تبرير... فالشقف العشر التي عثر عليها في كامد اللوز مكتوبة بأبجدية... مع بعض العلامات التي تشبه نظائر لها في العربية الجنوبية، لكن هذا لا يعني أن لغة هذه النقوش عربية» (3).
ويمكن فهم سبب هذا الهجوم. فوجود أبجدية عربية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، يطيح بالفرضيات السائدة حول الأبجدية وأصلها وتاريخها. والفرضية السائدة أن الأبجدية الفينيقية نشأت في القرن العاشر قبل الميلاد، وأن الأبجديات العربية الجنوبية والشمالية اشتقت منها. ووجود أبجدية عربية في القرن الرابع عشر يطيح بشكل مدوّ بكل هذا. غير أن الهجمات لم تدمر فكرة ماندنهول. فقد أتى بعد ذلك مارتن برنال ورأى أن الكتابة عربية: «لقى جديدة لنقوش مبكرة بخط من شمال الجزيرة العربية، وخاصة من كامد اللوز، أعادت إحياء فرضية برياتوريوس Praetorius في بداية القرن [العشرين] القائلة بأن ما يسمى بـ«الحروف الجديدة» في الأبجدية اليونانية مأخوذة من حروف موجودة في الثمودية والصفائية» (4).
على أي حال، قرأ مندنهول الكسرة 2 من اليسار إلى اليمين هكذا: لمثري. بالتالي، فنحن مع الاسم مثري تسبقه لام الملكية. لكن الثلاثي المذكور رأى أنّ هذه الكلمة لا يمكن اعتبارها عربية بأي شكل. ولا أعرف لماذا. فالاسم «مثري» يمكن بسهولة أن يكون عربياً جداً، بغض النظر عن صحة قراءة ماندنهول أو عدم صحتها.
أما بنجامين ساس، فلم يتوان هو أيضاً عن الهجوم على ماندنهول، واصلاً حدّ اعتبار أنّ العلامات على الكسرتين ربما لا تكون حروفاً أصلاً: «نسبة هذه العلامات إلى أحد خطوط جنوب العربية، ناهيك بنسبتها إلى الثمودية، هو مجرد تخمين. وربما أن هذه العلامات ليست علامات كتابية على الإطلاق» (5). وكما نرى فهناك تشكيك في التشابه الواضح بين عدد من حروف النقشين وحروف جنوب الجزيرة العربية. أكثر من ذلك، هناك تشكيك بأن العلامات حروف. ذلك أن ربط نقشي الكسرتين بالجزيرة العربية أمر متفجر، وله علاقة بأصل الأبجديات الفينيقية، والعربية شمالاً وجنوباً، إضافة إلى الأبجدية اليونانية.
على أي حال، يمكن للمرء أن يتفق مع قراءة ماندنهول، باستثناء قراءته لحرف الراء. فقراءته لهذا الحرف على أنه راء، وهي راء فينيقية في هذه الحال، يجعلنا مع أبجدية خليط: عربية - فينيقية. وأنا لا أرى دلائل على هذا في نقشَي الكسرتين. بذا يجب البحث عن قراءة أخرى للحرف الرابع. لكن قبل أن أقدم اقتراحاً في هذا الخصوص، عليّ أن أقول إن موقع هذا الحرف غريب حقاً. فالأحرف الأربعة الأخرى تهبط نازلةً على خط مستقيم، في حين أن هذا الحرف يخرج عن الصف وينتأ إلى اليمين. فلماذا يأخذ هذا الموقع الغريب؟

الحرف الرابع يترك الصفا وينتأ يميناً


هناك احتمالات عدة في رأيي لتفسير خروج هذا الحرف عن الصف:
الأول: أنّ الكاتب نسي أن يكتب هذا الحرف، وحين أدرك ذلك لم يكن بإمكانه وضعه في الصف، لهذا اضطر إلى وضعه في مكانه هذا، لكي يدرك بين الحرفين قربه. لذا، يجب قراءته بعد الحرف ذي الحلقتين الذي يقرأ «ثاء» عادة.
الثاني: أنّ هذا الحرف هو الحرف الأخير في الكلمة، لكنّ الكاتب لم يحسب المساحة المتاحة جيداً عند الكتابة، فاكتشف أنه لم يعد هناك مكان كاف ومناسب لكتابة هذا الحرف. فكتابته في المساحة المتبقية ستجعل الحرف يكتب فوق الخطوط في أسفل الكسرة، كما يظهر حين وضعنا الحرف في مكانه المفترض في الصورة أدناه. وهذا سيشوّش الحرف ويجعله غير واضح. وهذا الاحتمال يفرض أن تكون الخطوط قد خطت قبل كتابة النقش.

إلى اليسار: موضع الحرف لو كان في نهاية الكلمة


الثالث: أنّ من كتب الاسم على الجرة سمعه ياءً في نهايته، فكتب الحرف الأخير ياء، لكنه اكتشف لاحقاً أنّ الاسم ينتهي بالدال وليس بالياء، فعاد وكتب الدال في مكانها الغريب. لكنه لم يمحُ الياء حتى لا يظهر المحو كتلف في الجرة. وميزة هذا الاحتمال أنه يؤدي إلى تساوي عدد الحروف في نقشَي الكسرتين. وهذا أمر له أهمية كبيرة كما سنرى لاحقاً.
أما مانغفيلد، فقد افترض أن الكسرة تحوي ثلاثة حروف فقط. أي أنه أخرج العلامتين العليا والسفلى واعتبرهما غير حروفيتين. كما أنه قرأ من اليمين إلى اليسار لا من اليسار إلى اليمين كما فعل ماندنهول. عليه، فقد أخرج النقش عن كونه نقشاً في الواقع. وقد قرأ الحروف الثلاثة المتبقية هكذا: بثم، أو رثم، أو دثم. أي أنه أعطانا احتمالات ثلاثة للحرف الرابع المبتعد الناتئ، والذي هو لغز النقش. وهو بالفعل يشبه بشكل ما حرف الراء الفينيقي. لكنه يشبه أيضاً بعض طرز الباء والدال. وأنا أميل إلى أنه حرف الدال. فهو قريب من حروف الدال في السامية الشمالية والجنوبية معاً. كما أعتقد أنه على علاقة بالعلامة 29 من علامات مقطعية جبيل التي كنت قد قرأتها على أنها دال.
بالتالي، فالنقش يجب أن يقرأ هكذا: لـ«مثدي»، أو لـ«مثد»، إن كانت الياء خطأ جرى التخلي عنه ولم يتم محوه. والجذر «مثد» يكاد يكون جذراً ميتاً، أي ساقطاً من الاستعمال، في القواميس العربية. وما تبقى منه يعني الرقابة على العدو: «مثد: مثد بين الحجارة يمثد: استتر بها ونظر بعينه من خلالها إلى العدو يربأ للقوم على هذه الحال... أبو عمرو: الماثد الديدبان وهو اللابد والمختبئ والشيفة والربيئة» (لسان العرب). وقد ورد الاسم «مثد» لكن ورود غير مؤكد. إذ ورد «في «موارد الظمآن»: «مالك بن مثد عن أبيه، قال الحافظ في «التهذيب»: مالك بن مرثد بن عبد الله الزماني» (6).

الكسرة 1 تكرر الكسرة 2
بدا نقش الكسرة 1 للباحثين لغزاً مقارنة بنقش الكسرة 2. فهو يبدأ من اليسار بما يشبه أربعة خطوط متوازية أو شبه متوازية، الأول منها أطول بكثير من الأخرى. لهذا تجنّب الجميع محاولة قراءته.



أما فرضيتي المركزية، فهي أن نقش الكسرة 1 يكرر نقش الكسرة 2. أي أنه يكرر الاسم ذاته مع لام الملكية التي تسبقه، مع أنّ أشكال بعض الحروف مختلفة بين الكسرتين. وهذا الاختلاف نابع، وبناءً على اقتراحي، من أن النص نفسه كتب بأبجديتين مختلفتين من الجزيرة العربية: واحدة أقرب إلى المسند الجنوبي، أو أنها المسند الجنوبي ذاته، وأخرى تمثل المسند الشمالي، أي أبجديات شمال الجزيرة العربية. وقرب الكسرة 2 من المسند الجنوبي، أمر واضح لدى الجميع تقريباً. فإذا استثنينا حرف الدال الخارج عن الصف، فإن جميع الحروف ذات طابع جنوبي ومكتوبة بخطوط هندسية واثقة مستقيمة مثلما حال كتابة النصب الرسمية في المسند الجنوبي. أما الطابع العام لنقش الكسرة 1 فهو شمالي. فخطوطه ليست هندسية، وهو أقرب إلى مخربشات (الغرافيتي) الشمالية.

نقش الكسرة 1 في الأعلى، ونقش الكسرة 2 في الأسفل


بذا فقراءة الكسرة 2 تعني عملياً قراءة الكسرتين معاً. وإن صحّ هذا، فهو يدعم احتمال أن الحرف الخامس «الياء» في الكسرة 2 حرف زائد نجم عن خطأ. لكن إن لم يكن هذا الحرف زائداً، فهو يشير إلى أن أبجدية الكسرة 2 تكتب حرف العلة النهائي، في حين أن الكسرة 1 تضمره. ولهذا رأينا أن الياء حذفت في الكسرة 1.
إن صح هذا، فهو يعني أنّ كاتب النقشين كان على معرفة بخط المسند الجنوبي الهندسي، وبالخط الشمالي ذي الطابع الغرافيتي. هذا إذا كان الكاتب واحداً، ولم نكن مع كاتبين مختلفين. فوق ذلك، فإن وجود الاسم على الكسرتين يعني أنهما من جرة واحدة، تخص بما فيها، الشخص ذاته في غالب الظن.
بالتالي، يمكن افتراض أنّ نوعي المسند كانا موجودين منذ القرن الرابع عشر ق. م. أي عملياً قبل أربعة أو خمسة قرون من التوقيت الشائع. وإن كان الخطان منبثقين من أصل واحد بالفعل، فإن هذا الخط يعود إلى ما قبل القرن 14 ق. م. أي قل إلى فترة ما بين القرن 14 والقرن 18 ق. م. مثلاً.
على أي حال، فالكسرة 1 في رأينا مكونة من أربع علامات لا خمس. أربع منها تمثل حروفاً، أما الخامسة، وهي الأولى من اليسار فليست حرفاً. هي أطول من أن تكون حرفاً. وهذا الطول الزائد عن حدّه يجعلها خطاً مثل الخطوط العرضية في أسفل الكسرة 2.
أما الحروف الأربعة فهي كما يأتي:
الأول: الذي يمثل خطاً شبه مستقيم، هو حرف اللام. والفارق بينه وبين حرف اللام في الكسرة 2 أنّه مستقيم تماماً.
الثاني: وهو حرف الميم. لكنها الميم الشمالية لا الجنوبية الهندسية المنتظمة.



يجب ملاحظة أن الحرف مكسور قليلاً من أعلى. لذا فأنا أفترض أنه كان مقفلاً في الأصل.
يمكن مقارنة الاختلافات بين الميم الجنوبية والميم الشمالية كما في الصورة أدناه.
الثالث: وهو الثاء. وهو مشابه للحرف ذاته في الكسرة 2 بوضوح.
الرابع: وهو قريب بشكل ما من الحرف الرابع في الكسرة 2، لكنه لا يشبهه تماماً. فهو مفتوح وليس مغلقاً مثل حرف الكسرة 2. مع ذلك، فأنا اقترح أنه حرف الدال هنا أيضاً. فرغم اختلافه عن دال الكسرة 2، فإنهما على علاقة قوية، ومنبثقان من أصل واحد في ما يبدو.

يمكن ردّ الاثنتين معاً في اعتقادي إلى العلامة 29 من مقطعية جبيل.


يمكن رد الاثنتين معاً في اعتقادي إلى العلامة 29 من مقطعية جبيل.
إذا صح ما نقوله عموماً، فإننا نحصل للمرة الأولى في التاريخ على نقشين من الجزيرة العربية، يكرران الجملة ذاتها، ويمثلان أبجديتين جنوبية وشمالية. وهذا يعني أنهما يضعان لنا تاريخاً ما لتوقيت انفصال الأبجديتين إن كانتا من أصل واحد. والأهم أنهما يطيحان بكل الفرضيات التي تعتقد أن خطوط جنوب الجزيرة العربية وشمالها مشتقة من الخط الفينيقي، ويطرحان فرضية معاكسة تماماً، أي أن خطوط الجزيرة العربية قد تكون هي السابقة، وهي التي انبثقت منها الخطوط الأخرى.

* شاعر وباحث فلسطيني