يمكن أن يكون اسم خوان كارلوس أونِتّي (1909-1994) قد مرّ مع المهتمّين بالأدب اللاتيني، قبل أن تُترجم أيٌّ من رواياته إلى اللغة العربية، عن طريق الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي كرّر في أكثر من مقابلة معه أن أونِتّي أحد كُتّابه المفضّلين، وأنّه يحب قراءة رواياته. قول يوسا هذا هو الذي دفع داري «سرد» و«ممدوح عدوان» إلى تكليف علي إبراهيم أشقر بترجمة روايتين قصيرتين للكاتب الأوروغوياني، هما «البئر» و«الوداع» اللتين نلمس فيهما الأسلوب الخاص بالكاتب، المقتصد في الوصف الخارجي، المركِّز على الأحاسيس الداخلية، والبعيد عن الواقعية السحرية التي كانت قد بدأت بالازدهار في حينه.يهيم راوي «البئر» (1939) في الرؤى والخيالات، خصوصاً في الليالي الطويلة قُبيل نومه، فهو يلجأ إلى الخروج الذهني من العالم لتعديل خيبات الفترة الأخيرة من حياته، إلى أن تتغلّب هذه الرؤى على الواقع وتقوده، مُطيحةً بما كان مستقرّاً فيه، كزواج الراوي من حبّ حياته، التي يُحيطها بغيرة كبيرة تصل إلى حدّ الشكّ وعدم الثقة، وعمله كصحافي، وأصدقائه الذين يبتعدون عنه واحداً بعد الآخر، من دون أن يُعير هذه الخسارات أي أهمية. إذ يتعامل مع كل شيء بلا مبالاة كأنّه لا يعنيه، وهو ما يُعبّر عنه بالقول: «هي العادة المُحالة دائماً في أن نولي الأشخاص أهمية تفوق الأهمية التي نوليها للمشاعر، أعني أن نولي الآلة أهمية تفوق الأهمية التي نوليها للموسيقى».


يلجأ الراوي إلى الكتابة وهو على أعتاب عامه الأربعين، في محاولة لفهم نفسه وترتيب حياته، كما بسبب الوحدة التامة التي يعانيها، والتي يردّها إلى عدم وجود من يفهمه، مهما بلغ مستوى خبراته الحياتية، كالعاهرة إستير التي يعاشرها، أو معارفه وعلومه النظرية، كصديقه الشاعر كوردِس، أو قُربه الوجداني والمكاني منه، كرفيق سكنه لاثرو، الشيوعي ذي الأصول الأوروبية الشرقية، الذي ينتقد من خلاله الجموع الشعبية المتحمّسة للنضال، من دون أن تلاحظ الاستغلال الذي تتعرّض له من قِبل «النخبة» و«المفكّرين»، الذين يعيشون في مستوى أعلى من مستوى الجموع التي يعظونها. كما أنّه ينتقد الفاشية التي كانت تسوق العالم نحو الدمار.
يمكن أن نفهم طريقة الراوي هذه في تسيير حياته، واختيار أونِتّي الكتابيّ الذي يقدّم لنا فيه رواية سرابيّة من دون أحداث، أو بالأحرى بأحداث قليلة يذكرها في سياق نصّه بشكل عَرَضي، كواقعة طلاقه من المرأة التي عشقها وزواجها من رجل آخر. أمر يُكسب نظرته إلى النساء وآراءه فيهن قسوة تصل حد معاداتهن. يمكن أن نفهم ذلك إذاً بالانتباه إلى الزمن الذي كُتِبت فيه الرواية، فهي مكتوبة عشية الحرب العالمية الثانية، بينما كانت الاستعدادات العسكرية نشطة، وقِطَع الجيوش تُنقل من مكان إلى آخر في أنحاء القارة الأوروبية، والمناخ العالمي قلِق ومشحون.
مقتصِد في الوصف الخارجي وبعيد عن الواقعية السحرية


تختلف الأجواء وتتعدد الشخصيات في رواية «الوداع» (1954)، فهناك حدث مركزي يتمثّل في وصول رجل طويل القامة بارز العظام، وعليل على نحو واضح، إلى إحدى البلدات الريفية التي تحوي مصحّاً لعلاج المصابين بمرض السل. النقطة الأكثر أهمية في هذه الرواية هي اختيار أونِتّي للراوي، الذي يجعله أحد المتعافين من المرض، يكمل حياته منذ اثني عشر عاماً بثلاثة أرباع رئة واحدة، ويعيش في البلدة بعدما افتتح حانوتاً فيها، ما يُكسبه شيئاً من صفات الراوي العليم بحُكم خبرته وتجربته مع السل. إذ يلجأ إليه الممرّض نفسه ليسأله عن تقييمه لحالة كل وافد جديد وتقدير ما تبقّى له من عمر. كما أنّه الراوي المتكلّم الذي يسرد لنا القصة كلها، معزِّزاً إياها بما يخبره به كلٌّ من الممرّض، بعد إنهاء جولاته اليومية لإعطاء الحُقن للمرضى، وكذلك إحدى خادمات الفندق القديمات، الملقَّبة بـ«الملكة»، التي تنقل ما تسمعه من خلف أبواب الغرف.
يأخذ المريض الجديد، الذي نعرف أنّه كان لاعب كرة سلة، مسافةً من الجميع، بمن فيهم الطبيب المعالج، إذ يرفض دخول المصحّ والبدء بتلقّي العلاج، ويستأجر بيتاً صغيراً في الجبل مبتعداً عن بقية النزلاء، حتى إنّه يستقبل عوض المرأة الواحدة اثنتين، واحدة في الفندق والأخرى في البيت المستأجَر، ويسرف في الشرب وعيش ما تبقّى من حياته مُعانداً المرض، كأنّه بذلك يُلغيه، كما يُلغي وجود من يضطر للجلوس معهم بإشاحة النظر عنهم، ما يؤدي إلى تزايد الحنق الذي يشعرون به هؤلاء تجاهه يوماً بعد يوم.
ينشب بين المرأتين نوع من الصراع على الرجل، على الرغم من أنّه «لم يعد رجلاً، وإنما هو تجريد»، لتنتصر إحداهما في النهاية، وهي تلك التي يحتفظ الكاتب بتفصيل يخصّها لا يكشفه إلا في آخر الرواية، ليتّضح بكشفه خطأ تصور أساسي تشكّل لدينا بفعل تسلسل الأحداث، في مفاجأة صغيرة لا تؤثّر في الرواية بشكل جوهري. لكن ما ليس مفاجئاً هي النهاية التي اختارها الرياضي السابق لنفسه، حيث أبت كبرياؤه وماضي أمجاده وبطولاته أن يقبع منتظراً، عائشاً في حمية قاسية وسجيناً بين مجموعة مرضى يُحتضرون، فقرر الذهاب راكضاً إلى ما رآه مقبلاً نحوه.