«مَن يكتب هو الحيوان المُقيم في داخلي». يكتب المُدون السوري عبود سعيد (1984) ليضعنا في ارتباك ونحن نقرأ نصوصه العارية والمتخففة من أيّ قيد أو جدار أو عُرف اجتماعي. تمتلك نصوص سعيد قوّة نجحت في الخروج من إطار «العالم الافتراضي» المُتاح عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، لتصبح إصداراً ورقياً على أرض الواقع حمل اسم صاحبه «عبود سعيد» (هاشيت أنطوان). ولعل مكمن التحدي الأول هنا هو قدرة تلك النصوص المكتوبة تلقائياً على ذلك الفضاء الالكتروني الذي يضعها في مواجهة قارئ مجهول لحظة خروجها للحياة، من دون المرور بمراحل النشر القديمة التي كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى تصبح تلك النصوص كتاباً يُمكن لمسه باليد. كانت نصوص سعيد تنال نجاحها على نحو مُباشر من خلال تزايد أعداد المتلقين النوعيين من جهة، ومن خلال إصرار كاتب النصوص نفسه على تثبيت نبرة إنسانية طوال عملية النشر المتلاحقة ما جعلها على هيئة سرد طويل غير منقطع. كما يُمكن الاعتماد على تلك النبرة الانسانية نفسها لندرك الأسباب التي جعلت تلك النصوص قادرة على الوصول إلى قارئ أجنبي بعدما قامت إحدى دور النشر الألمانية بترجمة مُعظمها وإخراجها في إصدار «أنا أفهم شخص على الفيسبوك» (ميكروتيكس-برلين 2013).
ليست هذه «الكتابة» ابنة أحد كبار الناس في الدولة، لذا سيكون في منطقة آمنة حين يلمسها
وقامت فرقة غنائية ألمانية باختيار نصوص من الكتاب وقامت بإدائها تحت عنوان «الديكتاتور لا يستمع إلى الجاز». سنرى أن تلك النصوص التي ساهمت في نقل صاحبها للعيش في المانيا قد خرجت مِن داخل ورشة خِراطة في مدينة مَنبج السورية. من تلك المدينة المُهملة في خريطة العالم برز هذا المُدّون ليُسجل يومياته وهو ينظر إلى الأشياء بعين مُختلفة، ناجحاً في إسقاطها أرضاً وتعريتها من قداسة كانت مفروضة عليها مِن جهة «حُرّاس اللغة وأصنام الثقافة». يؤمن سعيد بحريته الكاملة في تحويل الكتابة إلى عملية تَحرش واضحة، من دون خشية من أي عقاب سينزل على رأسه. ليست هذه «الكتابة» ابنة أحد كبار الناس في الدولة، وعليه سيكون في منطقة آمنة حين يلمسها: «أكتب وكأنك تعزف على البيانو في صالة خالية من الجماهير». هكذا يُتاح التعامل مع الكتابة بحرية مفتوحة بلا حدود لتصبح مُخلصة للحقيقة وحيث «كل شيء في مَنبج حقيقي». من هنا يُمكن لمس نبرة السخرية المُتعالية وهو يتناول مفرداته الحياتية مُنطلقاً من داخل بيتهم حيث يعترف أنهم لا يطرقون أبواب الغُرف على بعضهم البعض فـ «ليس لدينا سوى غرفة واحدة». وهنا يُطالب أهل الإعلام المرئي أن يُكبّروا الخبر العاجل «لأن تلفزيوننا صغير جداً». وتتضاعف سخريته حال وصوله مستوى النُخبة الثقافية التي يتلّخص تواصلها مع الواقع بـ «إنها تُمطر، يا للقرف»، أما القصائد الرديئة فيقول سعيد بأنه سيكتب مثلها و«سأجلب إخوتي وأولاد عمّي وأبناء عشيرتي لكي يقرؤوها رغماً عن أنوفهم». يدوّن صاحب «عبود سعيد» سيرة الحُب بصراحة مُطلقة مُعترفاً لصديقته بأن «لاشيء يستحق الموت من أجله» إلا إذا كان سيُحرق قلبها. ويقول بطريقة صادمة أخرى حين تظهر سيرة الحُب تلك في حالة اشتباك مع الخيانة ذاتها «كل مرة نفترق،أنتظر اتصالكِ كي لا أجيب»، مؤكداً لها في وقت سابق أنه «في كل مرة أقول أحبكِ، أخون الثورة» على الرغم من حقيقة هذه الثورة التي «غيّرت حتى مفاهيم الحُزن عند الأمهات».
يتظاهر عبود بتلميع وإظهار حقده على العالم والمحيط وأثقال الحياة لكنّه لا يحقد في حقيقة الأمر. هو يكتب أوجاعه لمجرد التخلّص منها والانتقال إلى نقطة أخرى في حياته، متخذاً السُخرية جسراً من أجل تحقيق ذلك. يقول: «أنا عامل سوري في لبنان» ويكتفي. هكذا وبمجرد جملة واحدة يصوّر شكل الحياة التي كانت له في بيروت طوال عامين وهي اختصار لأشكال الحياة القاسية التي يواجهها عاملون سوريون هناك، متفوقاً بذلك على «تنظيرات» جماعات حقوق الإنسان و«معارضي الكاراجات» واتحاد النساء العام الذي يراه سعيد «أقل من حذاء أمي البلاستيك». في النصوص الختامية للكتاب يمكن ملاحظة أنه دونها في الأيّام التالية لوصوله ألمانيا، حيث يقول أنه كان يتمنى البقاء «لكن الموت في كل مكان»، مُعترفاً في الوقت ذاته أنه كان في الماضي يتمنى ركوب الطائرة كي يعرف «كيف تبدو البيوت والشوارع والأسواق بنظر الطيّار الذي يقصف المدينة».
اليوم وقد صار عامل المخرطة الشاب في أرض اللجوء تبدو نصوصه وقد انشغلت بشأنه اليومي وممارسة سخريته منها. لهذا يسأله أصدقاء ومتابعون لماذا توقف عن الكتابة في أحوال بلاده التي تركها فيجيب: «لأنني أخجل».