لم يستطع الضيف إخفاء حذره وخوفه حين قفزت ريتا وهي تنبح وتدور حوله. إنها مفاجأة غير متوقعة خرّبت مزاجه الرائق خلال زيارته القصيرة لحلب... كانت ريتا بفروها الأبيض وحجمها الصغير تملأ البيت بحركاتها متنقلةً من مكان إلى آخر، تخرج من صالة الاستقبال إلى المطبخ ثم سرعان ما تعود إليها، وما أن يقع نظرها على الضيف حتى تنبح ويشتدّ نباحُها وتزداد قفزاً وعبثاً فيظلّ الضيف مُرتبكاً في جلسته محاولاً إخفاء جزعه بينما يتصاعد ضحك فاضل جرّاء المفارقة، فلم يكن يتوقع من صديقه الذي طالما أُعجب بمواقفه الجريئة في أمور كثيرة أن يكون خائفاً مرتبكاً من كلبة صغيرة بريئة لا تملك سوى أن تستعرض نفسها بهذا النباح وتلك الحركات المتكررة..قال فاضل: لا تـقلق من ريتا، إنها كلبة مسالمة لكن هذه هي طريقتها في استقبال الضيوف! إنني آسف ولكن لا تقلق فلم يسبق أن آذت أحداً...
قال الضيف ولم يكد يرفع نظره عن ريتا: ربما، لكن لا أُخفيك بأنني لا أستطيع التخلّص من عقدتي من الكلاب، عقدة قديمة، من أيام الطفولة...
نبحت ريتا وقفزت إلى حضن الضيف الذي سرعان ما نهض مرتعداً حاملاً الكلبة الصغيرة مُلقياً إياها إلى الأرض دون جدوى، فهي تزداد عبثاً مكورةً نفسها ملقيةً بها على الرجل الذي فقد رباطة جأشه منذ البداية وما عاد يعرف كيف يسيطر على اضطرابه، بينما فاضل يوشك أن يسقط أرضاً من شدة الضحك والمفاجأة...
بدا الرجل في ورطةٍ لا يعرف كيف يخرج منها، فلم يكن من المتوقع أن يبدو مُرتبكاً الى هذا الحد أمام صديقه، أمام فاضل الذي كان يأخذه دائماً على محمل الجد، فلم يكن يتوقع بأنَّ صاحبَهُ سينفرطُ بهذه السهولة إزاءَ عبثِ كلبةٍ بريئة اعتادت النباح عندما ترى شخصاً غريباً في البيت...
لقد حمل فاضل كلبته الصغيرة وهو يرجوها أن تصمت، نادى على أمّه وهو يَعتذرُ من صديقه. قال لأمه ألاّ تدع ريتا تدخل عليهم ثانيةً...
انحنى فاضل على المجلة التي سقطت منه بينما ذهب ضيفه إلى الحمام ليغسل وجهه ويديه عله يستعيد رباطة جأشه. حين خرج الرجل وهو ينشّف وجهه من البلل والارتباك، حاول فاضل الانتقال إلى موضوعٍ آخر، وسرعان ما بدأ يحدّثه عن مشروع سيناريو فيلم تسجيلي عن لؤي كيالي الرسام المعروف الذي مات منتحراً نهاية الستينات. قال فاضل إنه ينوي مفاتحة «مؤسسة السينما» حول إمكانية تنفيذ السيناريو في العام القادم، لكنه لا يعرف ما إذا كان يستطيع تأجيل التحاقه بالخدمة العسكرية سنة أخرى أم لا!
بدأ المطر يهمي حين أعاد الرجل كأس الماء إلى الطاولة، وهو يحاول استعادة هدوئه وجديته دون جدوى، لكنه سرعان ما قال مُحاولاً لملمةَ بقايا ارتباكه: المهم أن تبدأ المشروع، ليس من الصحيح أن تؤجل مسألة كهذه، إن الانشغال بمشروع فلم يحتاج إلى ترك التفكير بأية تفاصيل أخرى. وافقه فاضل وهو يردُّ على صوت أمه التي نادته لأخذ القهوة بينما تساقطُ المطر يشتدُّ في الخارج.
كان البيت دافئاً لكنَّ صوت المطر أشعرَ الضيفَ ببرد خفيّ. وحين وضع فاضل فنجاني القهوة على المنضدة قال لضيفه: أعرف أنك الآن بحاجة لكأس نبيذ، لكن ما زال أمامنا وقت كثير وليلُ الشتاء طويل كما تعرف. وافقه الضيف على ذلك. لم يكد الرجل يُكمل كلامه حتى سمع نباح ريتا فتخيَّل أنها ستدخل قافزةً عليه مرة أخرى قالبةً فنجان القهوة على ثيابه، فما كان منه إلا أن وضع الفنجان على المنضدة ناهضاً باتجاه النافذة العريضة ساحباً الستارة وهو يقول: لم أكن أتوقع أن المطرَ سيشتدُّ إلى هذه الدرجة، الناس في دمشق يشكون قِلةَ المطر وندرته حتى إن بعضهم صار يقرّع نفسه والآخرين راداً سبب شحة المطر إلى كثرة المعاصي والذنوب! ثم التفت الضيف إلى الباب ليتأكد من عدم دخول ريتا قائلاً: يبدو أن حلب محظوظة هذا العام، لقد نزل مطر كثير عندكم، أليس كذلك؟
أجاب فاضل وهو يقدم كأس نبيذ لضيفه: صحيح، صحيح... لقد نزل مطر كثير على حلب وحولها هذا الشتاء، لكنني لا أجد مبرراً لقلق أهل دمشق فما زال الموسم في منتصفه...
كان الرجل ما يزال يسمع ريتا تنبح بين حين وآخر لكن نباحها بدا بعيداً، ففهم أن الكلبة أصبحت بعيدة أو في غرفة مغلقة. عاد إلى هدوئه رغم حذره من مفاجآت متوقعة. قال فاضل: سيهدأ المطر بعد قليل، إن ليل حلب يصبح أكثر لطفاً بعد توقف المطر، سنتجول قليلاً رغم هذا البرد اللعين.
سألهُ الضيف: هل لديك تصورات مسبقة حول السيناريو؟! أقصد هل هي فكرة طارئة أم قديمة؟!
قال فاضل: إنها فكرة قديمة، إن مأساة الفنان لؤي كيالي ومفارقات حياته ليست قليلة. في موسكو كان بودّي أن يكون فلمُ تَخرّجي عنه، لكن لم يكن الأمر ممكناً هناك، إنني بحاجة إلى بيئة حلب كي أصوّر أحداث الفلم حيث عاش هذا الرسام الحزين وأنهى حياته منتحراً بتلك الطريقة المأساوية...
تذكّرَ الضيف أن لؤي كيالي مات منتحراً بُعيد هزيمة حزيران 1967 حتى أن البعض فسّر ذلك بسبب صدمة الهزيمة والمزاج العام السيئ الذي ساد آنذاك، فاستدرك ذلك وقال لصديقه السينمائي: يبدو أن حساسيته السياسية كانت مفرطة!
فهم فاضل ما يقصده الضيف فقال: ربما. لستُ متأكداً من ذلك، ليست لديَّ معلومات دقيقة عن توجهاته أو حساسيته السياسية، ما أعرفه أن حياتَهُ كانت مفعمة بالتباساتٍ كثيرة، عاطفية واجتماعية، كان رجلاً طيباً لكنه كان مُدمناً على الخمر كما سمعت، لقد أرهقه الفَقر ولم يكن هناك من يهتم بشراء لوحاته، وكانت أوضاع البلد مضطربة على العموم. لديَّ بعض التفاصيل عن حياته وعلاقاته الشخصية، لا أظن أن هزيمة حزيران وحدها هي سبب انتحاره، الانتحار غالباً ما يأتي نتيجةَ مأزقٍ شخصي، وأكثر الظن نتيجةَ تصورات خاطئة وحساسية مفرطة من بعض الأمور. كنتُ أودُّ لو كان الفلم طويلاً، أقصد روائياً لأتمكن من عرض حياة الفنان من خلال الجو الاجتماعي العام في حلب بالإضافة لتفاصيل حياته الشخصية، لكن كما تعرف ليس بوسعي أن أفرض على مؤسسة السينما تغييرَ تقاليدها، فهم يسمحون للمخرجين الجدد تقديم أفلام قصيرة في البداية.
كان فاضل وضيفه قد أنهيا قنينة النبيذ حين انتبها لتوقف المطر... بينما تسلّلت ريتا من الباب الموارب بهدوء، كانت هادئةً وهي تَتَباطأ في مشيتها، ألقت بنفسها نائمةً عند قدمي فاضل...
كان عليهما أن يظلا صامتين قليلاً كي لا يُربكا نومة هذه الكلبة الجميلة. حمل فاضل ريتا ووضعها في فراشها عند زاوية الصالة القريبة من النافذة، أطفأ المصباح الكبير واكتفى بضوء النيون. قال بصوتٍ خافتٍ: إن ريتا لا يُسمع لها صوت ما إن ترى أمي نائمة، إنها كلبة ذكية جداً...
في الخارج أحسّا بعذوبة الهواء، فقد هدأ البرد فجأة. أراد فاضل أن يوقف سيارة أجرة، لكنَّ صديقه اقترح عليه مواصلة الطريق مشياً... كان ليل حلب وديعاً وبقايا مطر يتساقط عليهما من أشجار الرصيف.

* كاتب عراقي