اعتادت «جامعة الأنطونية» الاحتفاء بمبدع من لبنان منذ 2008 عبر الإضاءة على نتاجه الفكري ضمن منشوراتها «اسم علم». الإصدار الثامن للجامعة خصص أخيراً لتكريم «وجيه كوثراني مؤرِّخ البُنى والتحوُّلات» (مجموعة من الباحثين، إشراف بسكال لحود ـ 2014).توزع الكتاب على قسمين: الأول يضم ثماني دراسات في مؤلفات كوثراني شارك فيها أنطوان سيف، وخليل أحمد خليل، وسعود المولى، وكمال عبداللطيف، ومنذر جابر، وشمس الدين الكيلاني، وأمين الياس، وباسم الراعي.
والثاني ضمّ شهادات عنه وفيه كما عرفه أصدقاؤه: أحمد بيضون صاحب «الجمهورية المتقطعة: مصائر الصيغة اللبنانية بعد اتفاق الطائف» (1999)، وزينات بيطار، وإبراهيم شمس الدين، وإبراهيم بيضون، وعبدالحميد هنيَّه، وعصام خليفة، ومحمد علي فرحات. الختام كان بكلمة للمحتفى به «ذاكرة وتاريخ وخيارات».
ليست المادة مؤلَّفاً تهليلياً. يتعاطى واضعوها مع مؤرخنا العَلَم والمرجع في التاريخ، برؤية محايدة منذ لحظة التأسيس المعرفي عنده التي بدأت بكتابه «الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان والمشرق العربي» (1976) وهو في الأساس أطروحته للدكتوراه التي ناقشها في «جامعة باريس الأولى» عام 1974 حتى آخر كتبه.

المؤرخ القلق، كما يحلو لبعض عارفيه أن يصفه، تناول في كتبه قضايا عدة بدءاً من مفهوم الدولة السلطانية ومشروع النهوض العربي مروراً بالسلطة والمجتمع والعمل السياسي من تاريخ الولاية العثمانية في بلاد الشام والفقيه والسلطان في التجربتين الصفوية والقاجارية وليس اتهاءً بالذاكرة والتاريخ والهويات والمواطنة.
قسِّمت الدراسات الثماني إلى أبواب تبعاً للموضوعات التي درسها كوثراني. يتضح الهم التاريخي لدى «المؤرخ المقيم في التاريخ» ـ كما يصفه أحمد بيضون ـ في حجم الإشكاليات الكبرى التي عالجها بدقة، لعلّه ينجح في إخراجنا من وطأة الانقسامات الهائلة في الذاكرة الجماعية والأرشيفية، المتغالبة والمتلاغية.
حملت الدراسة الأولى عنوان «الذاكرة والتاريخ في رؤية وجيه كوثراني: الذهاب والإياب بين الحاضر والماضي». عمل أنطوان سيف على تحديد المنهج الذي اتبعه كوثراني، خصوصاً بعد «صدمة الأطروحة»، قاصداً بذلك ما أثاره كتابه الأول «الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان والمشرق العربي» من ردود نقدية، دفعته إلى تطوير منهجه التاريخي والإفادة من المناهج الحديثة أولها مدرسة الحوليّات الفرنسية (1929) التي انتمى إليها وتبنى مقولات أركانها الكبار.
أولى اهتماماً للعلاقة التاريخية الملتبسة بين الديني والسياسي

كيف الخروج من عقلية الأحاديث التي تعزو إلى الغائب كلَّ ما يحدث في سبيل اختراق التاريخ الضائع؟ عالج خليل أحمد خليل من بوابة هذا التساؤل معضلة التأسيس لتاريخ علمي في لبنان والعالم العربي. كان كوثراني من المؤرخين الذين عبروا من الميتاتأريخ إلى التأريخ وسعى في أعماله إلى الكشف عن المهمل أو المجهول في تاريخ العرب الحديث كما خلص صاحب «العقل في الإسلام».
كوثراني العالِم بفقاهة التاريخ وأصوله ومدارسه، أولى اهتماماً ملحوظاً لفقه الإصلاح الشيعي والعلاقة التاريخية الملتبسة بين الديني والسياسي كما تبدى في مؤلفاته التي تناول بعضها سعود المولى.
من جهته، توقف كمال عبد اللطيف أمام محورين اثنين: الأول يُعنى بمجمل آثار كوثراني مع محاولة لترتيبها وتركيبها في أبواب محددة، والثاني هو عرض جهوده الفكرية عبر تقديم بعض نتائج أبحاثه في إبستمولوجيا التاريخ وقضايا الفكر العربي المعاصر خصوصاً النهضة والديمقراطية. وإشكاليات الكيان اللبناني والطائفية.
يضع شمس الدين الكيلاني كوثراني في صف الجيل الرابع من المؤرخين العرب الطامح إلى تجاوز التركيز على جانب واحد من التاريخ العربي ـ الإسلامي أسوة بنظيره رضوان السيد. اهتم بدرس أبحاث المحتفى به عبر مقارباته بشأن السلطة والشريعة والتحول الاجتماعي في المجالين السُنِّيِّ والشيعي، مؤكداً أنها لا تجنح إلى التأويلات الإيديولوجية بل إلى تتبع المتغيرات الفعلية للدولة والسياسة في علاقتهما بالإسلام. وبينما يتناول أمين الياس المحاور الأساسية التي اهتم بها كوثراني، خصوصاً الهوية والسلطة والدولة والمجتمع في التاريخ الإسلامي والعلاقات بين العالم العربي _ الإسلامي والغرب، قدم باسم الراعي قراءة في كتاب كوثراني «هويات فائضة.. مواطنة منقوصة» (2004). وأخذ على مؤلفه أنه يؤرخ لحالة قنوط مما آلت إليه أمور حضارتنا، وظهرت هذه النتيجة الكامنة في مفهوم الحضارة المحصور في شروط المعرفة والتأثير.
اتسمت الشهادات بميزتين: الأولى، ذاتية تكشف البعد الإنساني بين اسم العلم وأصدقائه في المعرفة ضمن حوار روحي بين العقول، والثانية، اكتنفت نوعاً من الطواف السريع بين أعماله.