نقطة بيضاء أولى يمكن العثور عليها في صفحات «عشت مرتين» (دار الشروق - القاهرة)، ألا وهي حرص حمدي قنديل الشديد على المرور بحوادث ومناسبات لا يزال شهودها على قيد الحياة. يأتي ذلك على عكس سير ذاتية تاريخيّة مصرية كثيرة تعتمد على قصص شهودها من الموتى. يظهر الصحافي محمد حسنين هيكل هنا مثالاً بارزاً في هذا السياق حيث تنعدم فرصة الرجوع إلى أي مصدر لتأكيد صحة ما تمّت روايته.

كما هناك نقطة بيضاء أخرى تتمثل في اختفاء نبرة الانتقام أثناء مرور صاحب هذه السيرة الذاتية على وقائع تخص شخصيات سياسية بارزة لم تتوقف عن فعل الأذية في حقه، رغم كونها نزيلة السجون اليوم، بدءاً من حسني مبارك، وصولاًً إلى وزير الإعلام السابق صفوت الشريف ومن كان بينهما. «إذاً ليس في نيّتي الانتقام» وفق ما جاء في تقديم السيرة.
يُمهِّد الإعلامي المصري لرواية حياته التي يعتقد أنه عاشها مرتيِّن، مؤكداً أنه شخص محظوظ رغم أنّه لم يُنجب ولداً وأنّ الحياة لم تهبه فرصةَ أن يكون أباً. مع ذلك، نستشف دموعاً كثيرة تسيل على مساحات كثيرة من أجزاء سيرته «عشت مرتين» حيث يبكي نفسه ووطنه الكبير. وبسبب تلك الدموع التي كان يذرفها أمام الشاشة كما خلفها، أطلق عليه المصريون اسم «حمدي منديل».
في هذا السياق، يحكي «رئيس التحرير» حين كُلِّف بالتعليق على مشاهد نقل جنازة جمال عبد الناصر على شاشة التلفزيون المصري. مهمّة حاول التماسك خلالها، «لكنّ البكاء كان يغالبني كلما هيئ لي أنني تماسكت». وعلَّل ذلك بأنه كان يرى «كأن القاهرة أمامي غارقة في الدموع». كما ستأتي سيرة الدموع مجدداً، لكن بعد وقت طويل وقد صار قنديل إعلامياً غير مرغوب فيه في بلده «أمّ الدنيا» ومحروماً من الظهور على أيّ شاشة مصرية. هذا ما دفعه إلى اللجوء إلى قناة «دبي». أتاحت له الإقامة الإماراتية (2004-2008) مقابلة وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحّاف الذي تجمعه علاقة صداقة ممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي: «كان لقاؤنا بالأحضان، وأظن أنّ الدموع اغرورقت في العيون. لست أدري أسى لما أصبح عليه حالنا، وكل منا طريد بلاده، أم حال أوطاننا». هي حرقة تبدو هنا مرتفعة وطاغية على نبرة حمدي قنديل وهو يُظهر همّاً عربياً شاملاً في طريقة متابعته للشأن السياسي. يبدو في حالة شفاء من عِلّة الشوفينية التي تبدو سِمة غالبة على مشتغلين كثر في حقل الإعلام المصري. حالة عروبية ستكون محطّ استفسار الرئيس السوري بشّار الأسد الذي طلب من قنديل أن يزوره في مكتبه الخاص في دمشق. خلال اللقاء، بادره بسؤال «لماذا تؤمن بالعروبة إلى هذا الحدّ؟». هذا اللقاء الشخصي سيكون مفتاحاً لإجراء مقابلة تلفزيونية رسميّة سمحت لقنديل بأن يسأل الأسد الابن عن الأسباب التي تمنعه من فتح باب المشاركة أمام معارضة الداخل «التي قاومت قمع النظام من الداخل سنوات طويلة، بعيداً عن الأوركسترا الغربية وأعوانها».
يعترف بأنّ «ثورة يناير» لم تحقّق أهدافها
في سياق هذا الانشغال العروبي، لا يبدو قنديل حريصاً على أن يظهر كما لو أنه يقف وحيداً في هذا الهمّ، بل هو جزء من انشغال شعبي أصيل لم تترك له الأنظمة العربية فرصة للظهور إلى السطح مُعبِّراً عن نفسه. يحكي هنا عن واقعة أتت في أشدّ فترات الحصار الرسمية التي فُرضت على «حزب الله» أثناء حرب تمّوز 2006. يومها، تمّ تشكيل وفد شعبي مصري للسفر إلى لبنان من باب إعلان التضامن. في مطار القاهرة، «اقترب مني أحد لواءات الشرطة وهمس في أذني: قل لحسن نصر الله إن مصر كلها معه».
خلال كل هذا، كان قنديل، الذي لم يوفق في دراسة الطبّ فانتقل إلى الصحافة، حريصاً على أن يكون ممسكاً بمبدأ الاستقلالية كشرط لا يقبل المساومة عليه كي يواصل عمله الإعلامي. مسألة كّلفته أثماناً باهظة، وهو يجد نفسه اليوم عاطلاًً من العمل. لقد تم إيقاف برنامجه «رئيس التحرير» في التلفزيون المصري بسبب موقفه من العدوان الأميركي على العراق عام 2003. برنامجه «قلم رصاص» في دبي تعرّض للمصير نفسه بعد احتجاج النظام السعودي عليه، وكذلك تم إيقاف أكثر من برنامج كان يقدمه على قنوات سعوديّة خاصة منها الـ art التي أجرى على شاشتها حواراً مع العقيد القذافي، فقامت الدنيا في القصر الملكي السعودي. يومها، أخبروا قنديل بأن «الجماعة زعلانين في الرياض» لأنه ترك القذافي «يهذي» من دون أن يحاول إيقافه أو التعقيب عليه. والمعروف أنّ تلك القناة ممولة بمجملها بمال ملكي من الباطن يقوم الشيخ صالح الكامل بتشغيله باسمه.
من هنا، يعترف قنديل بأنّ غياب الاستقلالية عن العمل الإعلامي العربي هو السبب الأول الذي أسهم في تخلّف هذا الإعلام وانحطاطه، إضافة إلى غياب الحرية. يقرّ وهو الذي يختزن فكرة نقيّة عن فترة حكم عبد الناصر، بأنه لم يكن يمتلك إعلاماً نزيهاً تماماً. في واحدة من الوقائع، عمدوا إلى إيقاف برنامج «أقوال الصحف» الذي كان يقدمه لأنه كان يقوم بإيراد أخبار عبد الناصر في نهاية البرنامج. كما لا ينسى أن يعتذر لأنه أجرى في برنامجه «عنفوان الشباب» عام 1965، حوارات في السجن الحربي مع معتقلين من الإخوان المسلمين. يقول: «أيقنتُ أنني ارتكبتُ خطأ مهنيّاً وأخلاقيّاً باستجواب معتقلين قُيدت حرياتهم».
كان لا بد من مرور «عشت مرتين» على أحداث «25 يناير» وإسقاط حسني مبارك، راصداً الأخطاء التي وقعت فيها وكذلك الأخطاء التي لحقتها. مثلما كان غياب الحرية عاملاً في زوال حكم مبارك ومرسي بعده، يأتي النظام الحالي ليكرر الأمر نفسه. وسط حديثه عن «الثورة»، يستعرض موقفه من محمد البرادعي الذي كان معولاً عليه للعب دور مؤثر في سياق التغيير الذي حصل في مصر. لكنه ظهر بشخصية بورجوازية سلبية لا تصلح لتكون مساهمة في أي تغيير. كما يرفض عقد أي مؤتمر جماهيري (هل لأنه ينفر من الجماهير أم لأنه يخشى منها، أم لأنه يحتقرها؟). يمكن اعتبار هذا اعترافاً منه ولو بشكل ضمني بأن «ثورة يناير» لم تحقق ما كان مأمولاً منها. يستذكر هنا واقعة حدثت معه وكان شاهداً عليها في اليمن عام 1963 خلال وليمة دُعي إليها مع عدد كبير من ضباط الثورة اليمنيّة. وقتها، وقعت مشادة كلامية بين الضبّاط تصدّرتها الشتائم المتبادلة، ما دفع أحدهم إلى رفع صوته قائلاً بأنهم وقعوا في المحظور حين اعتقدوا بأنّهم أنجزوا مهمّة الثورة يوم قاموا بها واكتفوا بذلك. يعلّق قنديل على هذه الواقعة، متحسراً «إن هذا هو بالضبط ما فعلناه نحن بعد إسقاط مبارك في 2011».