أميل سيورانترجمة آدم فتحي
«مُنْذُ وُجِدتُ» – تبدو لي هذه الـ مُنْذُ مشحونةً بدلالةٍ مرعبة إلى حدٍّ يجعلُها لا تُطاق.

■ ■ ■


نحن لا نركُضُ نحو الموت، نحن نفرّ من كارثة الولادة ونتخبّط مثل ناجين يحاولون نسيانها. ليس الخوف من الموت سوى إسقاطٍ على المستقبل لخوفٍ آتٍ من لحظتنا الأولى.
يصعبُ علينا طبعاً أن نعتبر الولادةَ نكبة. ألم يُرسَّخْ فينا أنّها النعمةُ الأولى وأنّ الأسوأ كامنٌ في نهاية مسيرتنا لا في بدايتها؟ إلاّ أنّ الشرّ، الشرّ الحقيقيّ، يكمن خلفنا لا أمامنا.

■ ■ ■


أعلَمُ أنّ ولادتي مُصادفة، حادثةٌ مُضحكة، وعلى الرغم من ذلك فإنّي ما أن أنسى نفسي حتى أتصرّف وكأنّها واقعة رئيسيّةٌ ضروريّةٌ لمسيرة العالَم وتوازُنه.

■ ■ ■


ليتني أكون حرّاً، حُرّاً إلى حدّ الجنون، حرّاً مثل وليدٍ ميت.

■ ■ ■


الفكرةُ، الكائنُ، أيُّ شيء يتجسّد، يفقد صورته ويُصبح مدعاةً للهزء. إنّه إحباطُ الاكتمال. علينا أن لا نهرب أبدًا من الممكن. علينا الاستسلام لدور المُنتَظِر الأبديّ. علينا نسيان أن نُولد.

■ ■ ■


حين نستهلك الاهتمام الذي كنّا نتعامل به مع الموت، وحين يُخيَّلُ إلينا أنّنا لم نُبْقِ فيه على شيء صالح للاستعمال، نعود إلى الولادة، وعندئذ نشرعُ في مواجهة هاويةٍ لا تنضب.

■ ■ ■


كلّما مرّت السنوات انخفض عددُ الذين نستطيع التفاهُمَ معهم. ويومَ لن نجد شخصاً نتحدّث إليه، نكون أخيراً كما كنّا قبل أن نسقُط في اسم.

■ ■ ■


لم يكن الفردوسُ مكانًا يُمكنُ تحمُّلُه وإلاّ لاستطاع الإنسان الأوّل أن يتلاءم معه. وليس هذا العالَمُ أكثرَ قابليّةً للتحمُّل بما أنّنا نفتقد الفردوس أو نطمح إلى آخر. ما العمل؟ إلى أين نذهب؟ لنمتنِعْ، ببساطة، عن عمل أيّ شيء وعن الذهاب إلى أيّ مكان.

■ ■ ■


عوضاً عن القبول بِحَدَثِ ولادتي عمَلاً بمُقتضيات الرأي السليم، ها أنا أراهن، أتدحرج إلى الخلف، أتقهقر أكثر فأكثر في اتّجاهِ ما لا أعلم من البدايات، أنتقل من بداية إلى بداية، لعلّي أنجح ذات يوم في الوصول إلى البداية نفسها، كي أستريح أو أنهار.

■ ■ ■


لقد قرّرتُ الكفّ عن استعداء الآخرين منذ لاحظتُ أنّي أنتهي دائماً إلى أن أشبه عدوّي الأخير.

■ ■ ■


اقترفتُ كلّ الجرائم، باستثناء أن أكون أباً.

■ ■ ■


ما أعرفه في الستّين، كنتُ أعرفه أيضاً في العشرين. أربعون سنة من العمل الطويل وغير المجدي، للتثبُّت...

■ ■ ■


منذ الطفولة أحسستُ بعبور الساعات مستقلّةً عن كلّ مرجع، عن كلّ فعلٍ وعن كلّ واقعة. أحسستُ بانفصال الزمن عن كلّ ما ليس هو، عن كلّ ما ليس وجودَهُ بذاته، كيانَهُ الخاصّ، سلطانَه، جبروتَه. أذكر بوضوح لا مثيل له تلك العشيّة حين وقفتُ لأوّل مرّة قبالةَ الكون الشاغر، فإذا أنا لا شيء إلاّ فِرار لحظاتٍ متمرّدة على القيام بالوظيفة الخاصّة بها. كان الزمن ينسلخ من الوجود على حسابي.

■ ■ ■


على العكس من أيّوب، لم ألعن يوم ميلادي. أمّا الأيّام الأُخرى فقد أشبعتُها لعنات.

■ ■ ■


حين نرى من جديد شخصاً بعد سنوات طويلة، يجدرُ بنا أن نجلس أحدُنا قبالةَ الآخر وأن نمتنع عن الكلام طيلة ساعات، حتى يُتيح الصمتُ للخيبة أن تستمتع بذاتها.

■ ■ ■


كلّما مرّت السنوات انخفض عددُ الذين نستطيع التفاهُمَ معهم. ويومَ لن نجد شخصًا نتحدّث إليه، نكون أخيراً كما كنّا قبل أن نسقُط في اسم.

■ ■ ■


حين نُحجم عن الغنائيّة يُصبح تسويدُ صفحةٍ محنة: ما جدوى الكتابة إذا كانت لنقول تحديداً ما كنّا نريد قوله؟

■ ■ ■


لم يكن الفردوسُ مكانًا يُمكنُ تحمُّلُه وإلاّ لاستطاع الإنسان الأوّل أن يتلاءم معه. وليس هذا العالَمُ أكثرَ قابليّةً للتحمُّل بما أنّنا نفتقد الفردوس أو نطمح إلى آخر. ما العمل؟ إلى أين نذهب؟ لنمتنِعْ، ببساطة، عن عمل أيّ شيء وعن الذهاب إلى أيّ مكان.

■ ■ ■


لا شكّ في أنّ الصحّةَ خير. إلاّ أنّ المتمتّعين بها لم يحظوا بالقدرة على إدراكها، لأنّ صحّةً واعيةً بنفسها هي صحّةٌ فاسدة أو على وشك الفساد. ولمّا تعذّر على أيٍّ كان أن يستمتع بخُلُوِّهِ من العاهات فإنّ في وسعنا الحديث دون أيّ مُبالغة عن عقوبة عادلة للأصحّاء.

■ ■ ■


لا أتمنّى أن يكون الآخرون منصفين تُجاهي: أستطيع أن أستغني عن كلّ شيء إلاّ عن الطاقة التي يمنحها الإحساسُ بالظلم.

■ ■ ■


نعرفُ الشخصَ المُؤهَّلَ لخوضِ رحلةِ بحثٍ باطنيّةٍ عن طريق العلامات التالية: أن يضع الفشلَ فوق كلّ نجاح، بل أن يبحث عن الفشل، دون وعيٍ طبعاً. لأنّ الفشل، الجوهريّ باستمرار، يكشفنا لأنفسنا ويتيح لنا أن نرانا كما يرانا الإله، بينما يُبعدنا النجاح عن كلّ ما هو حميم فينا وفي كلّ شيء.

■ ■ ■


يُفتَرَضُ أن لا نؤلّف الكُتُب إلاّ لنقول فيها ما لا نجرؤ على البوح به لأحد.

■ ■ ■


ليس من شيءٍ طَيِّبٍ فينا إلاّ وهو نتيجة خمولنا، نتيجة عجزنا عن الانتقال من القول إلى الفعل، نتيجة إحجامنا عن تنفيذ برامجنا وخططنا. إنّ رَفْضَنا التحقُّقَ أو إيماننا باستحالة أن نتحقّق هو ما يرعى «فضائلنا»، أمّا عزْمُنا على بذْلِ قُصارى جهْدنا فهو ما يحملنا على التطرّف والانحراف.

■ ■ ■

نحن لا نركُضُ
نحو الموت، نحن نفرّ من كارثة الولادة ونتخبّط مثل ناجين يحاولون نسيانها


الثورات هي
روعة
الأدب الرديء

بالنظر إلى الأشياء وفْقاً للطبيعة يبدو أنّ الإنسان خُلِقَ ليعيش ملتفتاُ إلى الخارج. إذا أراد النظر إلى داخله فإنّ عليه أن يُغمض عينيه، أن يكفّ عن العمل، أن ينحرف عن المجرى. إنّ ما نسمّيه «حياة باطنيّة» هو ظاهرة متأخّرة لم تُصبح ممكنة إلاّ بفضل التخفيف من وتيرة نشاطاتنا الحيويّة، بما أنّ «الروح» لم تستطع الظهور والتفتُّح إلاّ على حساب حُسْنِ سَيْرِ الأعضاء.

■ ■ ■


ممّا قالهُ أخي في شأن الاضطرابات والأمراض التي عانتها أمُّنا: «الشيخوخة هي النقد الذاتي للطبيعة».

■ ■ ■


ليس من فنٍّ حقيقيّ دون نسبةٍ قويّةٍ من الابتذال. إنّ من يعتمد باستمرار على ما هو غير عاديّ سريعاً ما يُصبح مملاًّ، فلا شيء أصعب على التحمُّل من رتابة الاستثنائيّ.

■ ■ ■


الأثرُ الأدبيّ لا يتحقّقُ إلاّ إذا تمّ إعدادُه في الخفاء، بتلك العناية وذلك الاحتراس اللذين يُبديهما القاتل وهو يخطّط لضربته. في الحالتين تكون الغلبةُ لإرادة الضرب.

■ ■ ■


لا أحد يستطيع أن يتَصَوّرَ ملامح الرسم والشعر والموسيقى بَعْدَ قَرْن. ستحدثُ وقفةٌ طويلةٌ بسبب إنهاك وسائل التعبير وإنهاك الوعي نفسِه، مثلما حدث بعد انهيار أثينا وروما. سيتحتّم على البشريّة كي تجدّد صلتها بالماضي أن تبتكر لنفسها سذاجةً ثانية، من دونها لن تستطيع أبداً استئناف الفنون.

■ ■ ■


لا أعرف رؤيةً واحدةً للشعر مُرضية بشكل كامل، غير رؤية إيميلي ديكنسون حين تقول إنّها أمام قصيدة حقيقيّة، يُصيبها البردُ، حدَّ أنّها تتصوّر أنْ لا نارَ تستطيعُ تدفِئَتَها بعد ذلك.

■ ■ ■


خطأُ الطبيعةِ الفادحُ أنّها لم تعرف كيف تكتفي بعصرٍ واحد. بالمقارنة مع العصر النباتيّ يبدو كلّ شيءٍ في غير محلّه، غير مرغوب فيه. كان على الشمس أن تحرد عند مجيء أوّل حشرة وأن ترحل عند ظهور الشمبانزي.

■ ■ ■


يكتمل العمَلُ الأدبيّ حين نعجز عن تحسينه على الرغم من علمنا بأنّه ناقصٌ وغيرُ كافٍ. يُنهكنا حَدَّ أنّنا نفقد كلّ قُدرةٍ على أن نضيف إليه فاصلةً واحدة وإن كانت ضروريّة. إنّ ما يحدّد درجة اكتمال الأثَر لا علاقة له إطلاقاً بمُقتضيات الفنّ أو الحقيقة، بقدر ما هو راجعٌ إلى التعب، بل القرف أيضاً.

■ ■ ■


إنّ ما يجعل الشعراء الرديئين أكثر رداءة، هو أنّهم لا يقرأون إلاّ الشعراء (مثل الفلاسفة الرديئين الذين لا يقرأون إلاّ الفلاسفة)، في حين أنّهم كانوا يجنون فائدةً أكبر من كتاب في علم النبات أو الجيولوجيا. نحن لا نغتني إلاّ إذا عاشرنا فنوناً بعيدةً عن مجال اختصاصنا. لا يصحّ ذلك طبعاً إلاّ في الحقول التي تجتاحها الأنا.

■ ■ ■


الثورات هي روعة الأدب الرديء.

■ ■ ■


قالت لي سيّدةٌ مُطَّلِعة:
-أنتَ ضدّ كلِّ ما أُنْجِزَ منذُ الحربِ الأخيرة.
-لقد أخطأتِ التاريخ. أنا ضدَّ كُلِّ ما أُنْجِزَ منذ آدم.

من كتاب بعنوان «مثالب الولادة»
يصدر قريباً عن «دار الجمل».