بثلاث ساعات، وخمس كؤوس بيرة «غينيس»، والعديد من سجائر «المارلبورو»، روى لي حنّا قرناً كاملاً من تاريخ عائلته في مدينة البصرة. كنت قد التقيت حنّا أول مرة عام 2003 في مقهى «الهافانا» في دمشق. كان يقرأ صحيفة لم أسمع باسمها من قبل، تختصُّ بعالم البحار، ويجلسُ قبالة الفاترينة المواجهة لجسر فكتوريا، ينتظر حدثاً ما. ثمّ التقيته بعد عامٍ في بار صغير في بروكسل، أو بالأحرى حانة المهاجرين التي تقع قرب محطة قطارات الشمال «لا ستاسيون دو نور»، حيث يقع حي العاهرات البلغاريات والرومانيات في سكاربيك.

وكنت قد فوجئت بعامل البار التركي، بصديريته الخضراء، وشاربيه الكبيرين، وقد وضع له زجاجة النبيذ على الطاولة وأطلق عليه لقب: البحار القديم. اللقب ذاته الذي كنت قد أطلقته عليه أول مرة، عندما رأيته في دمشق، بعد يومين من اجتياح العراق.
بعد عام من ذلك اليوم، كنت قد عرفت من أشخاص عديدين، أنه روى لرواد البار قصة حياته أكثر من مرة، وحكى لهم أكثر من مرة كيف كان بحاراً في ميناء البصرة في السبعينيات. وعرفت ممن كانوا يرتادون مقهى المهاجرين، أنه روى لهم كل شيء عن تاريخ عائلته: بنات أخ، أبناء عم، أخوات، أجداد، أسلاف… قال لهم إن بعضهم يعيش الآن على شاطئ معزول من ضواحي كاليفورنيا في أميركا، وبعضهم مهاجرون في أستراليا، وبعضهم في استوكهولم، أما الباقون فهم في البصرة، ميناء هذا البلد المنهك، حيث يمكن توقع حدوث الأسوأ دائماً.

■ ■ ■


بعد رحيله إلى لندن، اعتاد الجلوس في حانة إنكليزية رخيصة في حي سوهو، يعرفها جميع المهاجرين تقريباً، وما أن يدخل، حتى يصرخ:
كأس بيرة «غينيس» إلى البحار القديم...
- كم سعر الكأس...
- ثلاثة باوندات...

■ ■ ■


اعتاد البحار القديم أن يتحدث لزبائن الحانة عن قصة حبه عام1977، حين كان بحاراً على ظهر الباخرة تموز التي تمخر عباب الخليج وتصل إلى أفريقيا.
عجوز يشبه عجوز همنغواي، كان مسحوراً بمشاهدة تساقط المطر على زجاج الحانة


يقول للنساء الإنكليزيات إنه ضاجع الآسيويات مرات عديدة
تحدث عن ملابسه البيض المخططة بالأزرق التي يرتديها البحارة العراقيون عادة، عن شبابه اليافع، وهيام النساء الزنجيات به حينما وصل أول مرة إلى خليج
كوبا.
وقف أمام النادل مرة وتحدث عن جنوح الباخرة في بومباي، وكيف رأى الرمل المتألق في شمس الصباح على الخليج الهندي، وقارن المناخ هناك بالأمطار في بانكوك، حيث كان حارس الميناء العجوز يرتدي معطفه المطري، ويشير بالمصباح إلى السفن.
لم يكن ينسى أبداً ميناء طنجة، حين جلس مرة على المرسى، حيث كانت سخونة الليل تصعد آتيةً من الأعماق، فتزيد من صلابة أجساد النساء على الساحل، وترسخ الشهوات على الأفخاذ.
كان يجلس كل يوم في الحانة متسلحاً بالخريطة والقمباص، في ساعة الغداء على الدوام، حيث تضج البارات الإنكليزية في سوهو بالموظفين الذين يرتدون البدلات والأربطة. يخرج حنا لهم الخريطة ويفرشها على الطاولة، يؤشر بيده على بقعة سوداء وسط محيط أزرق. يقول لهم: انظروا هنا. هذه آسيا. يشرب من كأس البيرة الكبيرة حتى تدمع عيناه، ثم يمسح شاربيه بيده. من هنا تهب الرياح الموسمية، إنها رياح الشرق المصحوبة بالخطر، حيث يغلق اليابانيون على أنفسهم داخل بيوتهم، محتمين بالسقوف المصنوعة من ورق الأشجار، ويتدثرون بفرشهم المؤرجحة المنسوجة من سعف السيزال.
يضحك الموظفون الإنكليز وهم يضعون الصحون أمامهم...

■ ■ ■


منذ سنوات بعيدة، وما زال البحار القديم يؤشر على بقعة سوداء على الخريطة، ويقول إن التايلنديين لا ينتظرون أحداً، لأنهم لا ينامون، فبلادهم هي مكان التربص الدائم، ونساؤهم كن يرصدنه في الليل كما لو أنه وعل فوق هضبة.
يقول حنا للنساء الإنكليزيات والمهاجرات، إنه ضاجع الآسيويات في حياته مرات عديدة، ضاجعهن وهن يصغين إلى الهمهمات الهاربة التي تحملها الرياح، وإلى البرد الذي يصعد من رمال الساحل، وإلى الرغبات الكامنة في باطن البحر، بينما خفافيشه تطير في الظلمة، صائحة في تيارات الهواء.

■ ■ ■


ها هو الآن أمامي رجل يشعر بالهزيمة والكآبة، بحار كان قد عرف البصرة وأضواءها في الليلة السابقة لٍلحرب مع إيران، عام 1980. وكان يحلم بمدينة عظيمة، وبفصل الشتاء فيها، وتساقط المطر على بيوتها الصغيرة.
لقد سافر كثيراً في البحر، ومرّ بمدن كثيرة، مدن ساحلية بيوتها ذات مداخن وسقوف قرميد مائلة، لكنه الآن مصاب بأرق دائم، ومجنون بمحيط كبير ومظلم، بعدما فقد شقيقه جوزيف النائب عريف في الحرب مع إيران، ومات والده ياقو الذي كان يربي الطيور في الخمسة ميل، ورحلت حبيبته الفتاة الغامضة التي كانت تعشق الأفلام المصرية إلى مكان مجهول، ثم انتحر صديقه، ذلك الشاب الذي لا يكف عن الحديث عن ولعه بالهروب من العراق إلى أوروبا، والذي كان يستحم كل ليلة في نهر دجلة، غير أنه اختفى في الموج ذات يوم، من دون أن يعرف أحد إن كان اختفاؤه هروباً أو انتحاراً...

■ ■ ■


بعد سنوات التقيته في موقف الباص. كان ثملاً تماماً، شعره أبيض ولحيته طويلة، ملابسه رثة، كان يعيش خيبة أمل كبرى بعد الحرب، ولا يجد مجالاً للتغيير إلا في استذكار أحداث كثيرة، منها وزراء العصر الملكي، وثورة عبد الكريم قاسم أواخر الخمسينيات، والعصر الذهبي للفرقة السمفونية العراقية، والقمع الذي عاناه الشيوعيون في سنوات السبعينيات، والمنشقون التروتسكيون الذين عارضوا التأثير السوفياتي... وقبل أن أصعد الباص أخذ مني سيجارة، أشعلها بيدين مرتجفتين، ورحل...

■ ■ ■


قبل أيام رأيته مرة أخرى في لندن، بحار عجوز يشبه عجوز همنغواي، يجلس في حانة إنكليزية في «إجوارد رود» تقع على مقربة من البازار العربي الذي يفتتح يوم الجمعة، كان مسحوراً بمشاهدة تساقط المطر على زجاج الحانة، وبسماع صوت بيبي كنيغ الذي ينبعث من زاوية معتمة، ويتلذذ بطعم البيرة الأيرلندية القوية التي دفع للنادل عنها ثلاثة باوندات من محفظته...ثم جلس عند النافذة وحده.
إنه بحار قديم، ترك خلفه بلداً متهالكاً من الحرب، من دون أن يكف عن الحلم بالعودة مرة أخرى إلى خليج البصرة...