ترجمة وتقديم: مبارك وساطقبل نحو ثلاثة أسابيع، حلَّت الذّكرى الثّلاثون لوفاة هنري ميشو، البلجيكي الأصل، الفرنسيّ الجنسيّة. فقد وُلِد في مدينة نامور في بلجيكا في 24 ــ 6 ــ 1899، وتوفّي في باريس في 19ــ 10 ــ 1984. وهو يُعَدّ، اليوم، واحدًا من أهمّ كتّاب اللغة الفرنسيّة في كلّ العصور. بالطّبع، ليس لازماً أن نُسايِر بعض غلاة مُريدي ميشو، مثل روبير بريشون، الذي كانت قد وصلتْ به الحماسة إلى حدٍّ جعله يكتب ــ في بيوغرافيا لهنري ميشو صدرتْ بعنوان: «هنري ميشو، الشّعر كقَدَر» (باريس، 2005) ــ بأنّ أعظم شاعرين عرفهما بنو البشر على الإطلاق هما فرناندو پيسوا وهنري ميشو... وإنّما سنكتفي بالقول بأنّ ميشو هو واحد من كبار كتّاب عصرنا. ليس اسْمُ ميشو بالغريب على القارئ العربيّ كلّيّةً، وإن يكنْ عددُ النّصوص التي تُرْجِمتْ له إلى العربية محدوداً، نسبِيًّا... وكانت الصّحافة الفرنسيّة قد عادتْ لتسلّط الأضواء عليه مؤخّراً، إثر ظهور كتاب «ميسكالين 55»، الذي صدر في غشت 2014، ويجمع بين دفّتيه رسائل ونصوصا لثلاثة كتّاب: السّويسريّة إديث بواسّونا، وهنري ميشو وجان پولان، ويتناول تجربتهم مع مُخَدِّر المسكالين...

وبالمناسبة، نستحضر جملة لأوكتافيو پاث، مشحونة بالنّقد لتجربة ميشو ــ العابرة ــ مع العقاقير المهلوسة ــ، وردتْ في صيغة سؤال: «تُرى هل تكون العقاقير قد حلّتْ محلّ الإلهام؟».
نذكر، أيضا، أنّ هنري ميشو كان من أصدقاء الشّاعر المصريّ الفرنكوفونيّ جورج حنين، وقد ساهم في المجلّة التي كان هذا الأخير قد أصْدَرَها في مصر تحت تسمِيّة: «نصيبُ الرّمل». وممّا كتبه جورج حنين، في «الرّوح الطّارق»، عن زيارة كان ميشو قد قام بها إلى مصر: «جاءنا ميشُو مُتَجَهِّمًا ومُتَحَرِّزًا، ولتنبسطَ أساريرُه، لزمتْ أيامٌ مُشْمِسة عديدة. وقد مضى، قبل عشرة أيّام، في اتّجاه السّودان، يحدوه أَمَلٌ مكتوم في أنْ يَتِمَّ اخْتِيارُهُ كمستشارٍــ ساحِرٍ. أُحِبُّ فيه كونَه لا يغفِرُ للنّاس التّباعُد الذي يُقيمونه مع الفنّ...»...

■ ■ ■


نعود إلى شخص ميشو، فنقول إنّه كان ضعيف البنية، في صباه وفُتُوّته. فكانت مناعتُه ضِدّ الأمراض ضعيفة، وكان متمرِّدًا على وَسَطِه العائليّ... وفي سِنِّ الثّانية والعشرين، قرأ «أناشيد مالدورور»، لِلُوتريامون، فتشكّلتْ لديه قناعة بِأنّ حياته ستكون منذورةً للكتابة. وكان قد ظهر في سنّ مبكّرة من صباه أنّه مصاب بتشوّه خَلْقِيّ في القلب، ممّا جعلَه يعيش، بعد ذلك، وكأنّه ينتظر حلول الموت في أيّ لحظة. وبالفعل، سيموت ميشو نتيجة مُضاعفات إصابة القلب، لكن... بعد بلوغه الخامسة والثّمانين!
في بدايات شبابِه، استمالَهُ التّصوّف المسيحيّ، وبعد ذلك مال إلى الفلسفات الهنديّة والصّينيّة، ثمّ انتهى به المطاف إلى عَيْشِ تجربته الرّوحيّة، «الباطنيّة»، من خلال الشّعر والرّسم التّشكيلي. وقد عاصر السّورّياليّين، وهو يُشْبههم في سعيه إلى استكشاف اللاشعور (مضى في هذا النّطاق إلى حدّ استعمال المِسْكالين)، وفي اهتمامه بالاستثمار الشّعري للهلوسات... لكنّه لم يَشَأ قَطّ أن ينخرط في الحركة السّورّيّاليّة، وقد تميّزتْ كتاباتُه بقلق وتمزّق كثيراً ما نلمسهما في عوالمه الدّاخِلِيّة. وكان أيضاً رسّاماً تشكيليًّا ذا باع. ولا شكّ أنّ المأساة الكبيرة التي عاشها ميشو كانت تلك التي ترتّبتْ عن احتراق زوجته ماري-لويز تيرمي الذي أدّى إلى وفاتها، وعن هذا الحادث كتب «نحن الاثنان أيضًا»، النّصّ الذي نقرأ فيه: «(...) لقد اختفت من شريط هذه الأرض/ لُو / لُو / لُو، في المرآة الارتداديّة للحظة وجيزة / لُو، ألا ترينني؟ / لُو، قَدَرُ أن نكون معاً إلى الأبد/ الذي كَم كنتِ تؤمنين به/ ماذا (عنه) إذنْ؟/ لنْ تكوني مثل الآخرين الذين لا تعود أيّ إشارة تصدر عنهم أبدًا /لا، لا يجب أن تكفيك أنتِ ميتة واحدة لتختطف منك حُبّك (...)». وانطلاقًا من أُولى «مجموعاته»، «إكوادور»، التي هي مُذكّرات عن رحلة فعليّة، مكتوبة بصورة غير مألوفة، نلاحظ أنّ ميشو أخرج الكتابة الشّعريّة من نطاق الخضوع لهذا الشّكل أو ذاك ــ بما في ذلك، أساساً، شكل قصيدة النّثر الأوروپية، تاركا للنّصّ الشِّعْرِيّ أن يرتاد من الآفاق ما يشاء.
وقد حرّر ميشو دفاتر أسفار تتعلّق برحلاته، وبعض هذه الرّحلات واقعيّ ــ مثل تلك التي نجم عنها مؤلّفاه «إكوادور» و«متوحّش في آسيا» ــ وبعضُها الآخر مُتَخيّل ــ واستقى منه مؤلّفاتٍ مثل: «رحلة إلى غارابانيا العظمى»...
ومن بين أعمال ميشو الأخرى، نذكر: «الأحلام والسّاق»، «ذاك الذي كُنْتُه»، «أملاكي»، «شَخْصٌ يُدْعى ريشة»، «الليلُ يتملْمل»، «في بلاد السِّحر»، «فضاء الدّاخل»، « العيش في الثّنايا»... فيما يلي، نصوصٌ مختارة من عددٍ من مجموعاته:


قَدَر
كنّا على ظهر السّفينة، وكنتُ، حَقّا، قد انطلقتُ، كنتُ في عُرض البحر، وإذا به يَدْهمني على حين غرّة، مثل دَيْن مُسْتَحَقّ الأداء. إنّه الشّقاء، ذو الذّاكرة القويّة، الذي عرّف بنفسه وقال: «هو ذا أنا، أتسْمع، هيا إذن، فلتَعُدْ»، واختطفني في لحظة، وأرجعني مثلما يُرْجِعُ المَرْءُ لسانَه إلى داخل فَمه.
كانتِ السّفينة، فِعْلاً، تُقِلُّني، وكان المُحيط، بأصواته الغامضة، يَتَنَحَّى برشاقة، ساحِبا إليه شفاهه الزَّرْقاء الطّويلة، وكان سرابُ الأراضي البعيدة... لكنْ، فجأة...
فحين يحملُ الشّقاءُ سلَّتَه وصندوقةَ كَلاّباتِه، ويمضي إلى الأحياء الحديثة الإنارة، ليرى إن كان أحدٌ من ذويه قد حاوَلَ تضليل قَدَرِه...
استمالَهُ التّصوّف المسيحيّ، وبعد ذلك مال إلى الفلسفات الهنديّة والصّينيّة

حين يُمْسِكُ الشَّقاءُ، ذو أصابِع الحلاق الماهر، مِقَصّه بيد، والجهازَ العصبيّ لشَخصٍ ــ ذلكَ السّلَّمَ الواهي غير الواثق من نفسه داخل اللحم ــ باليد الأخرى، مُستثيراً بــــروقَ وتشنّجاتِ ويأسَ ذلك الحيوان المذعور الذي من كتّان...
أوه، أيّها العالم المَقيت، ليس سهلاً أن يُحصَّلَ منكَ خير.
إنّ من انغرز في عينه دبّوس لا يُبالي بمُستقبل البحرية الإنكليزية. أنْ ينامَ هو منتهى أمَلِه. لو يستطيع فحسب أن ينام. لكنّ الجفنَ، مثلما فرشاة، مُغطّيا ألمَه...
وعلى عينٍ ما، إذا ما أُخرجتْ بالشّكل الملائم، يُمكنُ أن نجعلَ صحونا تدورُ بِشكل بديع.
إنّه لعجيب أن يرى المرء ذلك، فهو لن يكلَّ من النّظر. لكنّ الذي تؤلِمُه تلك العين يَحْصُلُ من ذلك اللعِب على قِسْطٍ يودّ من أعماقه لو يَبيعه دون تأخّر. أوه! إنّه لن يَنتظر أن يُتَوسّل إليه... لا، لا، أَوْ، على الأقلّ، لن يَترك أحدا يُطْيلُ في التّوسُّل.

غثيان أم هو الموتُ يَحُلّ؟
سَلِّمْ نَفْسك يا قلبي.
لقد كافحْنا بما فيه الكفاية.
ولتتوقَّفْ حياتي.
لم نكنْ جبناء.
قُمنا بما في المُستطاع.

آه يا روحي!
أترحلين أم تبقين،
عليك أن تُقرّري.
لا تجسّي أعضائي هكذا،
مُتنبّهةً آونة، وشاردةً أخرى،
تبقين أم ترحلين،
عليكِ أن تقرّري.
أنا ما عُدتُ أحتمل.
يا سادةَ الموت
أنا لم أُجَدّف في حقّكم ولم أصَفِّقْ لكم.
أشفقوا عليّ،
أنا الرّحّالة الذي قام بالعديد من الأسفار دون حقائب،
دونما سيّد، ولا ثروة، والمجدُ رَحَل إلى أمكنة أخرى،
أنتم أقوياءُ بِكلّ تأكيد، وغرباءُ الأطوار في المقام الأوّل،
أشفقوا على هذا الرّجل المُخَبَّل الذي يَجهر لكم باسمه قبل أن يعبر الحاجز،
أمسكوه قبل أن تستقرّ قدماه تماما على الأرض،
وليتكيّف، إن استطاع، مع أمزجتكم و طباعكم،
وإن شئتُم أن تُساعِدوه، فلتُساعِدوه، أرجوكُمْ.

اضطهاد
في الماضي، كان لأعدائي بَعْضُ السُّمْك؛ لكنّهم الآن أَضْحَوْا مثلما أسلاك. لقَدْ مُسَّ مِرْفَقي (طيلة النّهار أَتعرّضُ للدّفع بِقُوّة). إنّهمْ هُمْ. لكنّهم، على الفور، يختفون.
منذ ثلاثة أشهر، وأنا أتكبدُ هزيمةً تلو أخرى: أعداءٌ بلا وجوه؛ منتمون إلى الجَذر، الجذر الحقيقي للأعداء.
على أيّ حال، لقد كانوا مُتَسَلِّطين على كامل طفولتي. لكنْ... كنتُ أَتَصَوّر أنّني الآن سأنعم بِسَكينةٍ أكبر.

صورة للمَيْدُوزِيمْ
أربعةٌ وثلاثون من الرّماح المُتشابكة، أيُمكنُها أنْ تُشَكِّل كائنًا؟ نعم، واحِدًا من المَيْدُوزيمْ. مَيْدوزيماً مُضَعْضَعًا، مَيْدوزيمًا ما عاد يعرف أين يتّخذ له مكاناً، ولا أيَّ وضْعٍ يتّخذ، ولا
كيفَ يُجابِه، ما عاد يعرفُ سوى أنْ يكونَ مَيْدوزيماً.
لقد دمّروا «الواحد» الذي هُو من مُقَوّماته.
لكنّهُ لم يُهْزَمْ بَعْد. الرِّماحُ التي يجب أنْ يَسْتعملها بشكلٍ مُجْدٍ ضِدّ العديد من الأعداء، أنْفَذَها بَدْءًا في جَسَدِه.
لكنّه لَمْ يُهْزَمْ بَعْد.

■ ■ ■


إنّهم يَتّخذون أشكال فقاعات ليحلُمُوا، إنّهم يتّخذون أشكالَ نباتاتٍ معترشةً لتتحرّك مشاعرُهم.
هيئةٌ هي عِبارةٌ عنْ حَبْلٍ طويل، تَتّكئ على جِدارٍ، جدارٍ لنْ يراهُ أَحَدٌ، على أيّ حال، فيما بعد. إنّها هناك. إنّها تتحاضَنُ مع نفْسِها.
وهذا كُلُّ شيء. إنّها مَيْدُوزيمة.
وهي تنتظر. مُتهدّلة القِوام، لكنْ أقَلَّ بكثير منْ أيّ حبلٍ في حجمها مُسْتَنِدٍ إلى ذاته.
هي تنتظر. فيا أيّاماً، ويا سَنواتٍ، تعالَي الآن. إنّها تنتظر.

■ ■ ■


مطاطيةُ الميدوزيمات القُصْوى هي منبع تلذُّذهم. ومصائبِهم أيْضاً. بضْعُ رِزَمٍ تَسقط منْ عربة، سِلْكٌ حديد يتدلّى مُتَرَجِّحًا، إسْفنجة تشرَّبتْ سائِلاً حتّى امتلأتْ، أُخرى فارغة وناشِفة، بُقْعة غَبِشة على سَطْح مرآة، أَثَرٌ يُومِض، تَفَرّسوا، تفَرّسوا جيِّدا في كلٍّ منها: ربّما يكون هذا الشّيء من بينِها، في الواقع، مَيْدوزيما، وربّما تكون كلّها مَيْدُوزيمات... انتابَ الواحدَ منها، أو جَرَحهُ، أو نفخه، أو قَسّاه، أوْ أفاضَ عليه المياه إحْساسٌ ما...

■ ■ ■


هذه المئات من الأسلاك التي تسري فيها رعشاتٌ كهربائيّة، تَشَنُّجِيّة، هذه الأسلاك المتشابكة بصورة مبهمة، هي التي تُشَكِّلُ وَجْهَ المَيْدوزيم. وَبوجْهه ذاك، يُحاوِلُ المَيْدوزيم القلِق أنْ يَتَفَحَّصَ في هدوءٍ العالَمَ المُصْمَتَ الذي يُحيطُ به.
بِهِ سَيُجيبُ العَالَم، مثلما يُجيبُ جَرَسٌ طَنّان.
وفيما يَهْتَزّ لنداءات، وَيُضْرَبُ، ثُمّ يُضْربُ، وَيُنادَى، ثُمَّ يُنادى، فإنّهُ يتطلَّعُ إلى يومِ أحدٍ، أحدٍ حقيقيٍّ، لم يَحْلُلْ بَعْدُ ولا مرَّةً.

في بلاد السِّحْر
نرى القفص، نسمع رفرفةً. نسمع الصّوت الواضح للمنقار يُسَنَّنُ على القُضْبان. لكنّ الطّائرَ ما له من وجود.
ففي واحد من هذه الأقفاص الفارغة، سمعتُ أشدّ صريخٍ لببغاواتٍ إناثٍ في حياتي. وبالطّبع، فلا واحدة منهنّ كانت العينُ تُدركها.
فيالها من ضجّة! كما لو أنّهنّ كُنّ ثلاث أو أربع دزينات في هذا القفص:
«...ألا يكون هذا القفص الصّغير ضَيِّقًا عليهن؟» سألتُ بشكلٍ آليٍّ، لكنْ مُضْفِياً على سؤالي، فيما كنت أسمعني أنطق به، نبرةً تهكُّمِيّة.
«بلى، أجابني صاحبُه بصرامة، ولهذا فهُنّ يَلْغَطن إلى هذا الحدّ. إنّهنّ يرغبن في مكان أوسع».


■ ■ ■


أنْ يمشيَ شخص على ضِفّتي النّهر معاً، هذا تمرين شاقّ.
في أحيانٍ كثيرة، يرى المرءُ رجلا (طالباً يدرُسُ السِّحر) صاعِداً مع النّهر، ماضِياً على هذه الضِّفَّةِ وتلك في آن: ولأنّه منشغل جِدًّا، فهو لا يَرَاكُمْ، ذلك أنّ ما يُنْجِزُه عَسير وعليه ألاّ يَشْرُدَ بتاتاً. وإلاَّ فسرعان ما سيجد نفسَه، وحيداً، وعلى إحدى الضِّفّتين، فأيُّ خِزْيٍ سيُشَكّله له ذلك وقتها!


■ ■ ■


كثيرًا ما ترون، مساءً، نيرانا في القُرى. هذه النّيرانُ ليستْ نِيرانًا. هي لا تُحْرِقُ أيَّ شَيْء. بالكاد، ومن أجل هذا يجب أن تكون تلك النّار شديدة الاضطرام، بالكاد قد تحرق خيطَ عنكبوتٍ عابِراً في وسطها.
وبالفعل، فهذه النّيران هي من دون حرارة.
لكنّ لها لمعاناً لا شيءَ في الطّبيعة يُدانيها فيه (وإنْ يَكُنْ دون لمعان القوس الكهربائيّة).
وتلك الاضطرامات تفتُنُ وتُخيف، دونما خطورة، على أَيِّ حال، وتلك النّيران تختفي على حين غِرّة، مثلما تكونُ قَدْ ظهرتْ.

■ ■ ■


رأيتُ الماءَ الذي يَحْبِسُ نفسَه عن السّيلان. إذا كان ماءٌ ما مُتعوِّدًا حَقًّا على مكانِه، إذا كان ماءَك، فهو لن يَتَدَفّق، حتّى وإن انكسرَ الدّورق إلى أربع قطع.
سينتظر، فحسب، أن نأتيَه بواحد آخَر. وهو لن يُحاول الانسكاب إلى الخارج.
أذلك بِمفعولُ قُوةِ الكاهن؟
نعم ولا. في الظّاهر، لا. فالكاهن قد لا يكونُ على عِلْمٍ بانكسار الدّورق ولا بما يُكابِدُهُ الماء ليلبَثَ في مكانه.
لكنْ عليه ألاّ يجعل الماءَ ينتظرُ وقتًا أطولَ ممّا ينبغي، فبقاؤه في وضْعه ليْسَ مريحًا، بَلْ مُرْهِقٌ جِدًّا، وهو، في تلك الحال، من دون أنْ يَضيع فِعْلاً، قدْ ينْتَشِرُ إلى حَدٍّ ما.
بالطّبع، يَجِبُ أنْ يكون ماءَك وليس ماءً جلبته قبل خمس دقائق، ليسَ ماءً تمّ تغييرُه للتّوّ. فهذا الأخير سيتدفّقُ على الفور. إِذْ ما الذي سيستبقيه؟

الرّيح
تُحاوِلُ الرّيح أنْ تَفْصِل الأمواج عن البَحر. لكنّ الأمواجَ تتشَبّثُ بالبحر، أليس هذا بديهيّاً، والرّيح تتمسّكُ بالهُبوب... لا، هي لا تتمسّكُ بالهبوب، وحتّى حين تُصْبِحُ عاصِفةً أوْ زوبعةً، فهي لا تتشبّثُ به. إنّها تنزع إلى التّوجّه، دونما تبصُّر، وقد فقدتْ صَوابَها أو تملّكها الهوس، نحو مكانٍ يسوده هدوءٌ مطلق، نحو امتدادٍ بحريّ تَرينُ عليه السّكينة، حيثُ ستكون أخيراً مُطْمَئِنّةً، مُطْمَئِنّة.
ما أشَدَّ لامبالاتَها بأمواج البحر! وسواء أكانتْ تلك الأمواج بسطح البحر أو على بُرْجِ جَرَس، في عجلة مُسَنّنة أو على شَفرة مُوسَى، فهي لا تأبه بِها. إنّها تتّجه نحو مكانٍ تسُودُهُ الطّمأنينة والسّلام لتكفّ، أخيراً، عن أنْ تكون ريحاً.
لكنّ كابوسَها يطولُ أمَدُه حقًّا.

قَرْيَةُ مجانين
كمْ كانَ المَرَحُ يَسُودُها فيما مَضَى، والآن هي قريةٌ مهجورة. كان، من بين أهاليها، رجل واقف تحت إفريز، منتظراً انقطاع المطر، فيما كان البرد قارساً جِدّاً، ولم يكن هنالك منذ وقتِ طويل، أيٌّ علامة على سقوطٍ وَشِيكٍ للمطر.
وكان فلَّاحٌ يبحثُ عن حصانه في وسط البَيْض. كانَ للتّوّ قَدْ سُرِق منه. حدثَ ذلك يومَ السّوق. كان عددُ البيوض لا يُحصى، وكانتْ في سلال لا تُعَدّ. مؤكّدٌ أنّ السّارق فكّر أنّه، بتلك الطّريقة، سيُثبِط من عزيمةِ مُلاحِقيه.
في غرفةٍ بالبَيْتِ الأبيض، كان رجلٌ يجتذبُ زوجته نحو السّرير.
- أتُريد! قالتْ له. وإذا كنتُ، في الواقع، أباك!
- لا يُمكنكِ أنْ تكوني أبي، ما دُمْتِ امرأة، ومعلومٌ أنّ ما من أحد له أَبٌ ثَانٍ، إضافةً إلى أبيه.
- أتَرى، إنّك بدورك غيرُ مُطْمئنّ.
خرجَ مقْهوراً؛ في طريقه، كان هنالك رجُلٌ بلباس السّهرة. قالَ له الرّجل: «اليومَ ما عادتْ هنالك مَلِكات. لا داعي للإلحاح، لم يعدْن موجودات» وابتعد مُهَدِّداً.

حياة قاسية
دوما آوي باكراً جداً إلى الفراش، منهكاً، مع أنّ أحداً لمْ يلحظ طيلة النهار أني
أقومُ بعملٍ ما مُتعِب.
ممكن ألا يُلحظ شيء.
لكنّ ما أستغربه أنا هو كوني أستطيع الصّمود حتّى المساء، ولا أضطرّ إلى الرقاد
منذُ الرّابعة بعد الظّهر.
فما يَجعلني مرهقاً بهذا الشّكل، هو عمليّاتي التي لا تنتهي.
لقد أسلفتُ أنّي أتعاركُ مع الجميع في الشّارع؛ أصفعُ أحدَهم، أمسكُ بأثداء النّساء، وباستعمال رِجْلِي كلامسةِ أخطبوط، أشيعُ الرّعب في عرباتِ المترو.
وفيما يَخصّ الكتب، فهي التي تُرهقني أكثرَ من أيّ شيء آخر. أنا لا أترك كلمةً في معناها ولا حتّى على هيئتِها.
أقبضُ على كلمة، وببعض المجهود، أقتلعها من جذورها، وأُبْعِدها نهائياً عن قطيع المؤلف.
في فصل واحد تَجِدُ نفسك على الفور أمام آلاف الجُمل. وعليّ أن أخرّبها كلّها. هذا ضروريٌّ لي.
أحياناً، تبقى بعضُ الكلمات كالأبراج، فيكون عليّ أن أعاوِد مهاجمتها مرّات عديدة. وحتّى قبل ذلك، إذْ أكون منهمكاً في التّدمير، يلوح لي بغتةً ذلك البرج من جديد، وأنا أعالجُ فكرة ما. إنِّي لمْ أحطِّمْه، إذن، بما فيه الكِفاية، فعليّ أن أعـــودَ إلى الخلــف وأجدَ له ما يُجْهِز عليه. وفي هذا أقضي زمناً لا ينتهي.
وحين أكون قد انتهيت من قراءة الكتاب بأكمله، أشرع في التّشكي بمرارة، فأنا لم أفهم شيئاً... بالطبع. لم أتمكَّنْ من زيادة شيء في حجمي. هكذا أبقى نحيفاً، ضامراً.
كنت أفكر، أليس كذلك، أني إذ أُكْمِل عملية التدمير، سأكسبُ توازناً. أمرٌ ممكن. إلا أنّه يتأخّر، يتأخّر حقّاً.

مشاغلي
نادراً ما أستطيع أن أرى أحدهم ولا أضربه. ثمّة آخرون يُفَضِّلون المونولوغ الدّاخلي. لسْتُ مثلهم. فأنا أفضّل أن أضرب.
هنالك أناس يجلسون قبالتي في المطعم ولا يقولون شيئاً، يبقون بعض الوقت لأنّهم قرّروا أن يأكلوا.
ها هو واحِدٌ منهم.
أُمْسِكُه، طُوكْ.
أمسِكه من جديد، طُوكْ.
أعلّقه إلى المشجب.
أُنزله.
أعلّقه من جديد.
أنزله ثانية.
أضعه على الطّاولة، أُجَمّعه وأخنقه.
أُمَرِّغُه في الأوساخ، أُغْرِقُه.
يحيا من جديد.
أغسله، أمُطّه (أعصابي بدأتْ تثور، عليّ الانتهاءُ من أمره)، أفركه، أضغطه، أُوجِزُه وأدخله في كأسي، ثمّ اقذف بمُحتواها علانيّة على الأرض، و أقــول للنّادل: «هاتِ كأسا أنظف».
لكنّي أشعر أنّي لستُ على ما يُرام. أُؤَدّي ما عليّ بِسُرعةٍ، وأمضي.

في بلاد الهاكْ
إذ كنتُ أدخل إلى تلك القرية، اجتذبتني جَلَبَة غريبة إلى ساحة مليئة بالنّاس، في وسطها، فوق مِنَصّة، كان رجلان شبه عاريين، لابِسَيْنِ قبقابين خشبيّين ثقيلين يَشُدّان أقدامهما بإحكام، يخوضان معركة لن تنتهي إلا بموت أحدهما. رغم أنّها لم تكن المرّة الأولى التي أُشاهِدُ فيها عَرْضاً وحْشِيّاً، فقد شعرتُ بأنّي لستُ على ما يُرام وأنا أسمع ضرباتٍ تهوي على جسدٍ من فردة قبقاب، ضَرَباتٍ رَجْعُها بهيمٌ، وكما لو أنّها منبثقةٌ من تحت الأرض.
الجمهور لم يكن يتكلّم، لم يكن يصيح، لكنه كان ينعبُ مهأهِئًا. تلك الشّكاوَى ذاتُ الجَرْس اللابشري كانتْ حشرجاتٍ ناجمةً عن أهواء مُعَقَّدَة، وكانتْ تعلو مثلما سُتُر شاسعة تَحُوطُ هذه المعركة الشّنيعة التي كان رجلٌ سيقضي فيها نحبه بلا عَظَمَة.
ووقع الذي يقع دائماً: فردةُ قبقابٍ صُلبة ووحشِيّة ضربتْ رأْساً. والتّقاسيمُ النبيلة، وهي كذلك حتّى حين تكون بعيدةً عن النُّبل، التّقاسيمُ النّبيلة لذلك الوجه كانتْ تُوطَأُ مثلما حبّات شمندر بلا أهمّيَة. ويسقط اللسانُ المِقْوَالُ، فيما لا يعود المخُّ في الدّاخل يَصوغ ولا فكرة، والقلبُ، تلك المطرقة الضّعيفة، بدوره يتلقّى ضرباتٍ، وأيَّ ضَرَبات!
وهكذا، فقد مات الآن حَقًّا! وللآخرِ كيسُ النّقود والانشِراح.
«إذن، سألني الواقف إلى جانبي، ما الذي تراه في هذا؟
وأنتَ؟» قُلْت، فعلى المرء أنْ يحتاط في هذه البلدان.
«هكذا الأمر! أضاف الرَّجل، إنّه عَرْضٌ للفُرجة، عرضٌ من بين عروضٍ أُخْرى. وحسب العُرْف، يَحْمِلُ رقم 24».
وبعد أن انتهى من الكلام، حَيّاني بِحرارة.