تقتفي الكاتبة السورية نادين باخص في دراستها النقدية «الدوائر المتحدة المركز» الصادرة عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» أثر الفكر الوجودي في شعر نزيه أبو عفش (1946)، باعتبار ذلك الفكر مرتكزاً على المفارقة تبعاً لطبيعة الوجود البشري القائمة على المزاوجة بين أضداد لا نهائية تتعلق بالذاتية، والتوق إلى الاندغام بالآخرين، والميل إلى الخطيئة والندم، والتوق إلى الحرية، والخوف من اتخاذ القرار، وخشية الموت وطلبه، وحب الحياة واتخاذ العبث سلوكاً. ورغم ما يعتري هذه المهمة البحثية من صعوبة، إلا أن سعة إطلاع باخص على الوجودية في أدق تفاصيلها عند روادها، وأهم الباحثين فيها أمثال سارتر وكامو وهايدغر، إلى جانب التعمق التحليلي لشعر أبو عفش كانا خير معين لها. توضح صاحبة «أخفي الأنوثة» أن أثر الفكر الوجودي لدى شاعرنا اتضحت معالمه بعد مجموعة من دواوينه التي نشرها في أعوام السبعينات وكانت السمة الأساسية فيها والخط الرئيس لأفكارها، ينتميان إلى الماركسية كإيديولوجيا تشرّبها أبو عفش وعاشها بعمق.
بعدها، بدأت معالم الوجودية تطفو إلى بؤرة التركيز الشعري لدى صاحب «أهل التابوت». باتت موضوعاته الأثيرة هي: «لا إنسانية الإنسان»، «لا معقولية العالم»، إضافة إلى العدمية، العبثية، التشاؤم، اليأس، القلق، والموت، جنباً إلى جنب مع تأمله العميق لعناصر الطبيعة، والكائنات الحية بما تطرحه من هاجس التوق إلى الفطرة الطيبة التي خلق عليها الإنسان، بمعنى بات لديه تحوُّل من الموقف الإيديولوجي إلى الموقف الإنساني.
انطلاقاً من مقولة جان كوهين «ما يهمنا في القصيدة ليس الأشياء في ذاتها، بل الأشياء مُعَبَّراً عنها من خلال لغة»، تبحث باخص في الخطاب متعدد المستويات واللغة السهلة في تجربة أبو عفش، بما يحويه من تناصّ ديني وتناقض بين إيمانيّ سطحيّ وعدميّ عميق، جنباً إلى جنب مع ملمح قصصي، أو كما يسميه الباحث عز الدين إسماعيل «درامية التفكير الشعري» وما يتضمنه من مونولوجات وحوارات وهواجس ذاتية، وأخرى تتجاوز الذات من أجل الآخر للوصول إلى ما أسماه هايدغر السَّقْطَة.
البحث يخوض في تلازم مقولتي الضعف والجمال
تبرز الأخيرة خصوصاً عبر موضوعة «الألم» التي لا يُدرك المعنى الحقيقي للحياة من دون مكابدته. نتعرَّف هنا إلى أنواع يأس صاحب «بين هلاكين» الذي يراوح بين يأسٍ كتيم، وآخر إيجابي يُبرِز صورة ما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان ضمن مفهوم خاص للأمل عند أبو عفش. مفهوم يتماثل مع رؤية كامو وهي أن الأمل تشويه للحياة، وخيانة لها بسبب ما قد يحقّقه من انتصار على ما فيها من عبثية.
رغم الطابع الأكاديمي لبحث صاحبة رواية «وانتهت بنقطة»، إلا أنها تخلَّصت من صرامته من خلال حيوية الطرح، وجمالية الانتقال من الفكرة إلى معادلها التطبيقي في قصائد صاحب «الله قريب من قلبي». البحث يخوض في تلازم مقولتي الضعف والجمال في ديوان «أهل التابوت». يتناول العدالة كأهم الأفكار في ما كتبه شاعر «الله يبكي»، إضافة إلى موضوعة «البطل المأساوي» الذي يعبر عنه كثيراً أبو عفش على أنه «الإنسان الذي اختار أن يكون عابثاً حين وعى عبث الحياة ولا معقوليتها، فبات يرى الكون خالياً من الشعور، شفافاً ومحدوداً، لا شيء فيه ممكن، ولكن يُعطى فيه كل شيء، ووراءه يكون كل شيء انهياراً ولا شيئية. يستطيع حينئذ أن يتقبّل مثل هذا الكون ويستمد منه قوته ورفضه الأمل، والدليل الراسخ على حياة خالية من التعزية». يتضمن البحث أيضاً مفهوم الخطيئة الفاضلة، ومواجهة العبث بالعبث أو التهكم عليه، إلى جانب التمرد في قصيدة «طوبى لهذا لصبر» والموت في بعض قصائد ديوان «ذاكرة العناصر».
تقول باخص في خاتمة بحثها: «يصعب تفكيك موضوعات الفكر الوجودي الحاضرة في شعر نزيه أبو عفش لارتباطها الوثيق ببعضها، وانبثاق الواحد منها عن الآخر، وتشابكها إلى حد التعقيد، حيث تبدو كأنها مجموعة من الدوائر الكثيرة التي تشترك بالمركز ذاته».