في «لبنان دفاتر الرؤساء» (دار الريس ــ الطبعة الأولى، 2014) يجول الكاتب ورئيس التحرير صحيفة «الحياة» غسان شربل في تاريخ ما زال ثقله حاضراً بيننا. رجالات دولة يتحدثون عن تجربتهم في الحكم. يحاولون الإدلاء بما لديهم من معلومات وأفكار وآمال ضمن حقبة طويلة نسبياً تبدأ بعهد الرئيس فؤاد شهاب إلى أن تصل إلى الجمهورية الثانية بعد اتفاق الطائف. لا يدعي صاحب «أين كنت في الحرب» تأريخ مرحلة. أجرى حواراته منذ مطلع التسعينيات ونُشرت في صحيفة «الشرق الأوسط» ومجلة «الوسط» التي كانت تصدر عن «دار الحياة». يحاور المؤلف ثماني شخصيات: فؤاد بطرس، ومنح الصلح، وكريم بقرادوني، وريمون إده، وصائب سلام، وشفيق الوزان، وكامل الأسعد وحسين الحسيني.

جاء التقديم في إطار التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة إثر موجات «الربيع العربي» المتآكلة في بلدان تُحكم بقوة النار والدم. يتحدث شربل عن انقسام اللبنانيين تجاه ما يجري في سوريا الحاضرة بقوة الجغرافيا والتاريخ في حواراته. لبنان لا يستطيع الهروب من قدره السوري. لا يتبدى هذا القدر في زمن الهزائم فحسب، بل تظهر أيضاً معالمه وبصماته وقيوده منذ عقود.
يموضع صاحب «لعنة القصر» كتابه في مجرى الأحداث العاصفة التي يشهدها العالم العربي. يعيش لبنان «الهش»، أمنياً وسياسياً، في منطقة بالغة الصعوبة: دول الخليج قلقة، مصر تصارع للخروج من محنتها، تفكُّك في اليمن والعراق وسوريا. حدود منتهكة، وأصوليات جوالة، ومجتمعات منهكة، وعنف ديني جهادي غير مسبوق. تكاد الحوارات تؤرخ لذاكرات سياسية عاصرت مراحل عدة. ثمة تفاوت في الشهادات. يلاحظ القارئ أن بعض من حاورهم الكاتب مارس الرقابة الذاتية، فاحتفظ بما لديه كي لا تتكشّف خيوط التاريخ كلها. مع ذلك، شكّلت هذه الحوارات أرضية جيدة لفهم قضايا كثيرة حول لبنان بين حقبتين: حقبة فؤاد شهاب رئيس الدولة والمؤسسات وما بعدها، وحقبة الطائف بإشكالياتها وتعقيداتها الداخلية والإقليمية.
يستهل صاحب «أسرار الصندوق الأسود» حواراته مع وزير الخارجية السابق فؤاد بطرس «ذاكرة الجمهورية وميزان الشهابية» كما يصفه. أرفق الحوار بشهادتين ممّن عاشوا تلك المرحلة عن قرب الأولى للمفكر منح الصلح الذي غادرنا منذ فترة والثانية مع كريم بقرادوني. امتد الحوار مع فؤاد بطرس على حلقات عدة. تحدث عن التعقيدات الداخلية والخارجية التي عرفها لبنان إبان عهود فؤاد شهاب وشارل حلو وإلياس سركيس. مرجع الخارجية اللبنانية الذي ارتقى إلى «رتبة الأقطاب» كما يسميه جورج فرشخ في كتابه «فؤاد بطرس: مذكرات موازية ومتقاطعة»، يسرد تفاصيل سياسية كثيرة خبرتها التجربة الشهابية في الحكم التي بدأت عام 1958 وقطعها عهد الرئيس سليمان فرنجية (1970_ 1976) وهو كان نقيضها ومفكك أجهزتها، وتابعت مع الرئيس سركيس ضمن شهابية معدلة تأخذ في الاعتبار المستجدات. تنوعت الأسئلة المطروحة وغطت إلى حد ما مجمل الحقبة التي عاصرها بطرس. أشار في حديثه إلى مفهومه للشهابية، والظروف المرافقة لوصول شهاب إلى سدة الرئاسة، إقليمياً ولبنانياً، ومعرفته العميقة به والعقبات السياسية التي كسرت مشروعه بسلبياته وإيجابياته وروابطه بالساسة اللبنانيين أمثال كمال جنبلاط وبيار الجميل ورشيد كرامي. تضمنت الأجوبة نوعاً من المحطات الحميمة ظهرت معالمها حين روى بطرس تفاصيل إنسانية عن الرؤساء الثلاثة. لم تكن الأزمات السياسية اللبنانية في الفترة الممتدة بين 1958 و1982 وحدها الحاضرة في الحوار الذي أدلى به. تقاطعت مع الحقب التاريخية التي شهدها الإقليم بدءاً من الناصرية، مروراً بنكسة الـ 1967 والصاقع الفلسطيني وما آل إليه «اتفاق القاهرة»، وصولاً إلى زيارة الرئيس المصري أنور السادات القدس وغيرها من الأحداث. على المستوى السياسي الداخلي، تحدث بطرس عن طبيعة العلاقة بين الرؤساء الثلاثة وبعض القيادات السياسية ورؤساء الحكومات من دون أن ينسى خط بيروت _دمشق أي العلاقات السورية _ اللبنانية. بقي طيف فؤاد شهاب حاضراً بقوة الانجاز التاريخي الذي حققه باني مؤسسات الدولة في جمهورية لبنان الضائعة. أتت شهادتا منح الصلح ونائب رئيس حزب الكتائب السابق كريم بقرادوني موازية إلى حدٍ ما سواء خلال الكلام عن الفترة الزمنية التي غطتها أم لجهة الانطباعات والتجربة السياسية التي حملها الرجلان. يحكي الصلح عن قضايا كثيرة: ولادة الحل الشهابي، مرتكزات الشهابية في الداخل والخارج. يشير إلى أن الجنرال كان ميّالاً إلى المعارضة في ثورة 1958. يتوقف عند ثلاث مراحل في عهده، كانت الأخيرة حين ردت الأجهزة السياسية والعسكرية المرتبطة بالرئيس على محاولة الانقلاب التي نفذها الحزب السوري القومي الاجتماعي بانقلاب جعل الشهابية كأحد نماذج الحكم العربي في الدول المحيطة كما يعتبر الصلح. عرف بقرادوني الشهابية عن قرب بحكم عمله مستشاراً للرئيس الراحل إلياس سركيس الذي كلفه ملف العلاقات اللبنانية ـ السورية. أتاحت له تجربته المعرفة القريبة للشهابية السركيسية أي الشهابية المعدلة في خيارات الداخل والخارج.
عميد المنفيين الراحل ريمون إده المتهم من قبل خصومه بـ «العناد» التقاه شربل في فندق «كوين إليزابيت» الباريسي عام 1995. سأله عن رؤساء الجمهورية والحكومة وشملت المقابلة محطات سياسية وشخصية. تحدث عن علاقته بالرئيس إلياس الهراوي والرئيس رفيق الحريري مسجلاً تحفظات عدة على الايجابية الظاهرة في حواره عنهما. تبرز في حواره الروابط التي جمعته برؤساء الجمهورية السابقين بينهم كميل شمعون، السياسي المحترف وصاحب الأعصاب القوية كما يصفه، وفؤاد شهاب الذي توترت العلاقة معه على خلفية رفضه أي مسّ بالمكتب الثاني، و»لولا هذه النقطة لكان عهده ربما أفضل العهود» وأخيراً الرؤساء شارل حلو وسليمان فرنجية وإلياس سركيس وأمين الجميّل.
استطاع شربل الكشف عن أبعاد مختلفة في شخصية الرئيس صائب سلام «البيروتي العتيق». أحب مدينته وقال فيها: «لا أعرف عدد المدن التي تستطيع احتمال ما تحملته بيروت، ولولا عراقة هذه المدينة وعراقة أهلها لقضت الحرب على كل شيء».
يكشف العمل عن حجم المشاكل السياسية المتوارثة في التركيبة اللبنانية

لفت في حواره إلى علاقاته مع رؤساء الجمهورية والحكومة ممن واكبهم. روى الأحداث القاسية التي ألمت ببيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وكذلك الظروف السياسية المواكبة للخروج الفلسطيني من لبنان.
المحطات السياسية التي رافقت رئيس الحكومة شفيق الوزان في عهدي سركيس والجميّل بدت الأكثر دقة وتعقيداً على المستويين الداخلي والإقليمي. يشير الوزان بشيء من المرارة إلى الظلم الذي تعرض له في ظل الظروف السياسية المرافقة لاتفاق 17 أيار عام 1983 الذي تمّ إسقاطه. يسجل انطباعه حول بعض رؤساء الحكومات السابقين منهم رياض الصلح وتقي الدين الصلح ورشيد كرامي وصائب سلام وسليم الحص ورفيق الحريري. يروي قصته مع فيليب حبيب مبعوث الرئيس رونالد ريغان التي بدأت مع أزمة الصواريخ التي أدخلتها سوريا إلى البقاع وما نتج منها من الاجتياح الاسرائيلي وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان. ثمة تفاصيل أخرى تضمنها اللقاء منها موقف الوزان من انتخاب بشير الجميل. في الحوارين الأخيرين مع كامل الأسعد وحسين الحسيني، طُرحت قضايا سياسية عدة كالتجربة مع رؤساء الجمهورية، فترة رئاسة المجلس النيابي، العلاقة مع الرئيس حافظ الأسد، اتفاق الطائف، واقع الطائفة الشيعية.
ليس «لبنان دفاتر الرؤساء» كتاباً تأريخياً. تُسجل له الإضاءة على أهم التحديات والانجازات التي طبعت تاريخ لبنان في مرحلتين متتاليتين. تبرهن الحوارات عن حجم المشاكل السياسية المتجذرة المتوارثة في التركيبة اللبنانية التي تتمظهر اليوم بأكثر صورها اضطراباً.