في 164 صفحة من غضب، تأتي مجموعة هشام البستاني القصصية الجديدة «مقدماتٌ لا بد منها لفناءٍ مؤجّل» («دار العين» المصرية). اللافت أنه يمكنك قراءتها من أية زاويةٍ، وتكون النتيجة مختلفة وذاتها في آونة واحدة، هو تناسقٌ متناقضٌ وغريبٌ معاً. النتيجة تكون ذاتها إذا اعتبرت الغضب سمة المجموعة ودفقتها الأولى، والاختلاف يكمن ــ تماماً- في أنّه يستطيع وبسهولةٍ «عبثيةٍ» بعض الشيء أن يوصل رسالته «لكَ أنتَ تحديداً» أينما كنت كيفما تريدها. يأتي هشام البستاني كواحدٍ من الكتّاب العرب الشباب «الغاضبين». جيلٌ وجد نفسه أسيراً لأطر الماضي لا يستطيع الفرار منها طيلة أعوام خلت، وفي لحظةٍ «قدريةٍ» ما أصبح خارج القيد، فقام بما يجيده: لم يدرِ ماذا يفعل. يعرف البستاني هذا جيداً. لهذا يهدي كتابه «للكون وحده»، ذلك أنَّ الكون يحتملنا ويتحّمل ما نرتكب من جرائم بحقِّه.
الكاتب الأردني المولود عام 1975 أراد تماماً أن تكون قصصه تعبيراً عن سرديته المدهشة. هو نفسه من قدّم له الكاتب المصري المعروف صنع الله ابراهيم كتابه الأوّل «عن الحب والموت» (دار الفارابي ــ 2008) يريد أن يكون كما روحه المعارضة متوثباً. هي مجموعةٌ قصصية لكاتبٍ يصر دائماً على أنه «لا أكتب لتسلية القارئ، فالكتابة التسلوية ليست فنّاً، كما أنني لا أبحث عن «النجاح»، أنا أقدّم عملاً فنياً رفيعاً محملاً بالطبقات متعددة الأعماق». ومن يأخذ هذا الكلام على محمل الجد ـ كقارئ- يمكنه فهم المجموعة القصصية لحظة الإمساك بالكتاب، لأن مجرَّد النظر إلى الغلاف (والعنوان أيضاً) يجعلك تتأكد من أن هناك «شيئاً» ما. الغلافُ كما العنوان، طويلٌ هو الآخر، لربما الطول ههنا نسبي، لكنه «معقدٌ» وليس بسهل، حشرة تتأرجحُ هنا، نصف وجه، الألوان لا تراكد فيها. إنها جزءٌ من قصص المجموعة ولو لم يفصح هشام كثيراً عن مكنوناتها.
ماذا عن القصص إذاً؟ يحار كاتبُ أي ملخصٍ أو قراءة عند مطالعة قصص البستاني. يصير الكاتب هو الحدث الأهم ـ أحياناً- كما هي عادة الكتّاب العرب. يغدو الكاتب أساساً أهم من رواياته، ولو ادعى هو العكس. يختار البستاني قصصه القصيرة (42 قصة) بعنايةٍ بالغة ويختارُ شخوصه بالدقة نفسها، فيختار الحلاج مرةً، ويعيده إلى الحياة (قصة عذابات الحلاج).
يختار الحلاج مرةً ليعيده إلى الحياة في عصرنا «المخيف»

هكذا، يعود الحسين بن منصور إلى عصرنا «المخيف»، لا يعرف كيف يعيشه، ولا يعرف أصلاً أنّه فيه إلا لماماً. لربما كانت الاستعارةُ «فجةً» بعض الشيء، فالحلاجُ بات مستهلكاً خلال الأعوام التي خلت لكثرة ما تم استحضاره عبر كل أنواع الفنون (غناء، شعراً، نصوصاً، مسرحاً). لكن مع هذا، لا تشعر «بغربة» البستاني نهائياً تجاهه، هو يعرف استخدامه بحنكة. التعليق نفسه ينسحب على اهتمامه بالجزائر، فدولة المليون ونصف المليون شهيد استُنفدت في النتاج الإبداعي، لكن البستاني يستطيع النفاذ من مبضع النقد، لإجادته حرفة «القصة». ورغم أنّ المدينة «معادةٌ»، إلا أنّه يستطيع الاستظلال بعيداً والنفاذ بقصته، ويكفي أن نمسك بتلابيب العربي بن مهيدي الثائر الجزائري القائل يوماً: «ألقوا بالثورة في الشارع سيحتضنها الشعب» كي نشعر. فهل هذه كانت نبوءة هشام التي أرادها صرخته الخفية في الكتاب؟
في الشخوصية القصصية نفسها، يظهر الشاعر ويلفريد أوين (شاعر انكليزي قتل قبل اسبوعٍ من نهاية الحرب العالمية الأولى) في قصة «مدار الرؤيا»، الشاعر الذي نشر ديوانه بعد وفاته ليرى ماذا حدث. يستحضر كذلك الكاتب الياباني الأكثر «شهرةً» في عصرنا الحديث يوكيو ميشيما، يناقشه، أنى له أن يرحل هكذا، وهو الذي انتحر بالسيبوكو (انتحار على طريقة الساموراي القدماء)؟ على جانبٍ آخر، يعاقر الحزن كما «الخمر المعتّق». لا يمكن الولوج عميقاً في القصص دون المرور على ذلك «التطهير». في قصة «باب مغلق من الخارج». يقول: «أنا مثل قمر بارد حزين، لا احد يراني». في «ذات مساءٍ رائق»، تلك المرأة التي تربي القطط اكتشفت فجأة أن هررها التي تحيطها بسورٍ عالٍ قد «رحلت» إلى غير رجعة. هنا ورغم أن القضية صغيرة، تجد انكساراً وهشاشة في آنٍ؛ فالقضايا الصغيرة كالقضايا الكبرى كلاهما بحسب زاوية الرؤية فحسب؛ كيفما يراهما صاحبهما. ماذا عن القضايا الكبرى: الحرب مثلاً؟ يطرق بابها البستاني باحثاً عن أي شيءٍ بعيدٍ من العبثية، لكنه لا يجد. يكتب «أن ثمة رصاصة كانت ستصيب كتفك، ولكنها اصابت كتف صديقك»؛ ليعود ويصل إلى نتيجةٍ عبثية صحيحة: «هناك حروب تشن بدون أسلحة، فالخواء والملل أشد فتكاً وضغوط العمل والأمراض والفقر والهموم اليومية كلها تعجل بالدمار وتؤدي الى التهلكة».
في المجمل، تأتي مجموعة هشام البستاني مفعمةً بأشياءٍ كثيرة، وتستحق القراءة بالتأكيد من كاتبٍ يجيد تماماً حرفته، فيتلاعب بالنص ويحاور القارئ بدقةٍ متعمدة: إنه هو نفسه صاحب قصة «التاريخ لا يصنع على هذه الكنبة» (ترجمتها المجلة الأميركية Literature Today وقدمته عبرها للقارئ الغربي) الذي استطاع عبر أسطره القليلة تصوير «الثورة المصرية» (الأخيرة) مع شعبها كاملةً.