يصح القول أن كل جيل إبداعي ينتج نقّاده الذين يولدون من رحم تجربته. وهذا ما كنت أستشعره عندما فكرت في تجميع عدد من مطالعاتي حول شعراء قصيدة النثر في السعودية. وقررت إصدارها في كتاب بعنوان «قصيدتنا النثرية ــ قراءات لوعي اللحظة الشعرية». جاءت الأنا الأوركسترالية في عنوان الكتاب كإعلان عن التبنّي الصريح لقصيدة النثر، والتعبير عن جدلنا الداخلي حول قصيدة النثر التي كان يُنظر إليها آنذاك، أي في التسعينيات من القرن الماضي، كخطيئة لا يرتكبها إلا الضعفاء والأدعياء الذين يعادون التراث، ويمجدون منتجات الآخر، لدرجة أن مقترفيها كانوا يُمنعون من الحضور المنبري، ويوصمون من قبل حراس الأدب بالمارقين. ولم يكن دافعي حينها الانتصار لهذا النص الإشكالي فقط، أو شرعنته على أرضية مشهد ثقافي عنيد، يحارب بضراوة كل ما هو جديد ومستحدث، بل التأكيد على احتفائي بأسمائها، وتجاوز جدل الشرعنة وأحقية الوجود إلى وساعات المنجز الوليد في مدار التجربة الإنسانية، وإنضاج عقيدتي النقدية بمقاربة تلك المنتجات الأدبية.
أي الانطلاق من حالة الاستئناس بقصيدة النثر إلى وعيها، واستبطان حالات التبدّل الفني، المتقاطعة بالضرورة مع مأمولات اجتماعية أشمل، والرهان على أن أفضل دفاع عنها هو تحفيز الشعراء على إنتاج المزيد من النصوص الصادمة.
في تلك اللحظة، كانت قصيدة النثر تعاني من اليُتم المؤسساتي، كما تتعرض لوابل من الاتهامات التبخيسية التي يؤدي فروضها أقطابُ السلفية النقدية، مقابل قطيعة جماهيرية واسعة. ولذلك، ارتأيت أن أسائل التجربة، وأفحص مختبرها الجمالي، وأبحث من خلال ذلك النبش في كل مواضيعها النصّية عن الخبرات المعرفية لأصواتها المشاكسة آنذاك للوقوف على نقاط استحقاق ذلك النص اللا امتثالي على أرض الواقع. وعليه، حاولت تحطيم معايير التقويم الأدبي المكرّسة. والانتقال من حالة القارئ المستهلك إلى فاعلية القارئ المنتج. وعلى تلك الحافة المتأرجحة، كنت أمارس بناء موقع القارئ النوعي في داخلي، لأعيد اختراع أناي.
وكنت أتوقع طبيعة ردود الفعل على الكتاب وقت صدوره سنة 1977 (دار الكنوز الأدبية/ بيروت) التي تراوح بين التهليل والاستخفاف واللامبالاة والتشكيك والإشادة، لأنه كتاب يرصد موجة إبداعية ملتبسة. ويمكن أن ينمو بنمو منجز قصيدة النثر ذاتها. بمعنى أن يتحول إلى مشروع نقدي أكبر وأشمل. فالكتاب ــ أي كتاب ــ له حياة بيولوجية. ولم أكن حينها أنظر إليه إلا كحفرٍ أولي لمجرى إبداعي أعمق. وكنت أتأمل أن يتشظى تيار قصيدة النثر ويتمدد لأصعِّد خطابي وأعمِّق مقارباتي. ليس بمعنى نفخ المادة وتمطيط المعالجات، إنما بمد لحظة الكتابة ذاتها وتفعيل الدرس الألسني وتجاوز عثرات المغامرة الأولى، على اعتبار أنه أول محاولة لي في المشهد الثقافي السعودي لمقاربة القصيدة الملعونة اجتماعياً، المُحاربة مؤسساتياً، المنبوذة قرائياً، المُقاطعة نقدياً.
من الوجهة الزمنية، جاء مناسباً، بل ضرورياً لتعزيز منجز قصيدة النثر في السعودية


إنسيرت 2: ردود الفعل وقت صدوره سنة 1977 راوحت بين التهليل والاستخفاف واللامبالاة والتشكيك والإشادة

لقد أردته وثيقة لرصد بواكير الظاهرة وانبثاقاتها. ولأرشفة المنجز لحظة صيرورته، استجابة لنداء ثقافي آت من ذوات جريئة ومتحرّرة تغريني ككائنٍ محبٍ للكلمات، لتعزيز إحساسي الفيلولوجي والتلذُّذ بالنصوص، حيث كانت تلك النصوص مسكوكة بمفردات ثقافية متمادية، تتشح معانيها العميقة برداء من الألفاظ الدالّة. وهو الأمر الذي كان يحرّضني على شعرنة خطابي النقدي، وبناء نص نقدي مجاور للنص الأدبي على قاعدة التضايف، وتسجيل حضوري الفاعل في جبهة الدفاع عن قيم التنوير والتحديث من خلال مقاربة الخطاب الشعري، وبموجب تلك القيم التي أحاورها داخل النص وأحاول أن أحوزها خارجه.
أردته إسهاماً لزحزحة التجربة الشعرية عن مواضعاتها، ووخز الذائقة بجرعات جمالية مغايرة تلغي الخط المتوهم بين النص والحياة، وتؤسس لمقروئية منذورة لاكتشاف الطاقة الديمقراطية الكامنة في قصيدة النثر، بمعنى تفكيك لحظة العقوق الشعري تلك، واعتبار النص منصة لمجابهة أكبر في مدارات الحياة الأوسع، بمعنى تسجيل الإختلاف على قصيدة النثر وبها مع الآخرين. وهو الأمر الذي بدا واضحاً في توالي الردود على منطلقات الكتاب ومضامينه، حيث وُصم باللامنهجية وضبابية المصطلح وإطلاقية الأحكام والتعميم والتناقض واليقينية والتعقيد الأسلوبي، في الوقت الذي كنت أنحت فيها بصمتي الأسلوبية بمعزل عن ضرورات السلفية النقدية واشتراطاتها، وأحاول رصّ مجمل الآراء المتطايرة حول قصيدة النثر داخل سياق جدلي يمكن البناء عليه في المستقبل.
من الوجهة الزمنية، أظنّه جاء مناسباً، بل ضرورياً لتعزيز منجز قصيدة النثر في السعودية. ومن الوجهة المعرفية الفنية، لم يكن على تلك الدرجة من الاكتمال والاستواء. وهذا هو مأزق الإصدار الأول، أو بمعنى أدق، الكتابات المعدة أصلاً للنشر في الصحف. إلا أنه من جانب آخر رسم ملامح المشهد، وثبّت إمكانية مجادلة الظاهرة كنصاب أدبي، وبالتالي ألغى حالة الجدب النقدي إزاء قصيدة النص.
هكذا جرى استقبال الكتاب أي كأطروحة قابلة للجدل، ومادة خصبة لإشعال السجال وتشجيع منتجي المعرفة على التماس الحواري مع منتجي النصوص.، وارتياد الفضاء الإبداعي بنظرة موضوعية تتوازى مع جرأة كُتاب قصيدة النثر، الذين استحقوا الحضور، رغم تواضع بعض مفاصل التجربة، بمعنى الحرص على عدم موت التجربة ودفن المنجز في متاهات التهميش والإلغاء.
المقاربات كانت قصيرة، بل مكثّفة بمعنى أدق. ولم تتضمن أي مقاطع استشهادية، بقدر ما كانت تضغط أسلوب الشاعر ومقاصده في عبارات مرنة. وتبسط فكرته في مفردات جامعة لتتماهى مع طبيعة النصوص. فهي قراءة لظاهرة لا لفئة. وهي ظاهرة بدت واعدة وقابلة للتمدّد واكتساح المشهد لأسباب موضوعية، حيث كان الكتاب يلعب على نقيضين هما دور المبشر بقصيدة النثر والمتحفظ على جانب كبير منها، سواء باشتغالها على تقليد الآخر، أو استنساخ جاهزية النماذج، أو حتى استسهال أدائياتها.
الكتاب لا يتحالف مع الظاهرة بحماسة مجانية، من منطلق التحزُّب، ولا يرصدها من موقع التابع المنشده أو التطويب النقدي، بل بمنطق التأصيل للظاهرة، والمتابعة الجادة، والقراءة العميقة، والتنقيب عن الدهشة الجمالية في النصوص. وترتيب مشهد غير مرتب أصلاً، وتوليف تجارب تعاني من عدم الانسجام كأول محاولة ذاتية لارتياد المشهد الثقافي من خلال كراسة تتلبس لبوس الكتاب.