النشر في أزمة. القراءة في أزمة. المثقّف في أزمة: عناوين كرّرناها حتى الملل، محيلين «الأزمة» على عوامل خارجنا. فهل نعفي ذاتنا من أيّ تقصير؟ ولو كان لي أن أمارس نقداً موضوعياً للمؤسّسة النشرية التي أعمل فيها، فماذا سأقول؟1ـ سأقول إنّنا، على امتداد 59 سنة، لم نفلحْ في أن نتجاوز الحالة «الشخصانية والعائلية» تجاوزاً تامّاً. وللإنصاف فإنّ هذا الواقع يسري على آلاف المصالح التجارية.
أثمّة إيجابياتٌ لـ «عائلية» العمل الثقافي؟ بالتأكيد. فالمشروع الثقافي الأقدرُ على تجاوز العراقيل في بلادنا هو المشروع المرتبط بشخص مؤسِّسه، حاملِ «الرسالة». وأحدُ أسباب بقاء دارنا على قيْد الحياة أثناء الحرب أنّها لم تكن «مؤسّسة» بالدلالات العلمية المألوفة، وإنّما فرداً من أفراد هذه العائلة: تأكلُ ممّا يأكلون، وتشربُ ممّا يشربون، وتنامُ في أسرّتهم، وتتدحرج معهم إلى الملجأ، وتغادر البلدَ حين يغادرون. وكان سهيل وعايدة يستقبلان عمّالَ المطبعة والكتّاب بين عامي 1975 و1981 في بيتنا في منطقة «الطريق الجديدة»، بعد أن تعذّر ذهابُهما إلى المطبعة أو المكتب الكائنيْن بين الخندق الغميق والعازاريّة.

في هذه الأحوال (التي تكرّرت في سنوات لاحقة) كانت العائلة عنصرَ أمانٍ للدار وللمجلة؛ وكانت أيضاً عنصرَ توفير: إذ لا موظّفين بمعاشات، ولا مكاتب للاستئجار، ولا مَن يحزنون.
مع توسّع عمل الدار بدخول بقيّة أفراد العائلة إليها تباعاً، حصل تقسيمٌ وظائفيٌّ لم يكن بالضرورة مبرمَجاً: رائدة (ورنا وزوجُها فيما بعد) لمعارض الكتب، سهيل وسماح للقواميس والمجلّة، رنا للدار، وعايدة لكلّ شيء. المهمّات كبرتْ، فاضطرّت الدارُ إلى الاستعانة بموظفين ثابتين: مدقّقين لغويين ومراجعي معجمات ومدراء تحرير.
يكاد مفهومُ «التحرير» يقتصر لدى الدار كما لدى غالبية الدُور العربية على التصحيح اللغوي والمطبعي
الأهمّ أنّ توسّع النشر ترافق مع ازدياد رفض بعض المخطوطات المقدّمة إلى الدار، فازدادت «حساسيّاتُ» الكتّاب أصحابِ المخطوطات المرفوضة («روايتي رُفضت لأنّ سهيلاً يكرهني أو لأنّ سماحاً قوميّ خشبيّ»،...). هنا باتت العائلة، أو صورتُها، عائقاً أمام نموّ الدار، فعمدنا إلى تشكيل «لجنة قراءة» (من خارج العائلة طبعاً) لقراءة المخطوطات وكتابة تقاريرَ وافيةٍ عنها بعد إغفال أسماءِ كتّابها. هكذا تراجعت «العائلة» وتقدّمت «المؤسّسة»، وهذه خطوةٌ تسجّل لصالح دار الآداب مع أنّها زادت من أعبائها المادّية.
2ـ وسأقول إنّ هوى أفراد العائلة طغى أحياناً على حاجات الثقافة والنشر ورغبات القرّاء المتنوّعة. فقد غلب الهمُّ الفكري والسياسي على مجلة الآداب بسبب طغيانه على عقل رئيس تحريرها (أنا)، وذلك على حساب الأدب. وغلب الجنسُ الروائي على مجمل إصدارات الدار بسبب الهوى الروائي لدى مديرةِ الدار، وذلك على حساب الشعر والمسرح والقصّة القصيرة والسياسة والفكر وكتبِ الأطفال والناشئة.
والأمران مؤسفان حقّاً: فالمجلة في عهد سهيل إدريس كانت رائدةً في نشر الشعر الحديث مثلاً. أمّا الدار فكانت رائدة في نشر الكتب السياسية والفكرية (سارتر، دوبريه، دوبوفوار، اسحاق دويتشر، ماركوزه، رايش...) وواكبت الثورةَ الجزائرية والمدَّ القومي والمقاومة الفلسطينية. المجلة (بشخصي) برّرتْ سياستها بالقول إنّ ما «يصلُها» من الشعر قليلٌ وضعيفُ الجودة؛ لكنّ هذا المنطق يصطدم بمنطق «الاكتشاف»، إذ ينبغي على المنبر الثقافي ألّا يكتفي بنشرِ «ما يصلُه» بل أن يبادرَ إلى تخصيص محاور شعرية وإلى تكليف شعراء ونقّادِ شعرٍ بالكتابة عن الشعر (وهذا ما فعلتُه في سنوات عملي الأولى في المجلة ثم تراجعتُ عنه لهوسي بالهمّ الوطني والقومي). أمّا الدار فقالت إنّ الشعر والقصة القصيرة والمسرحية اليوم «لا تبيع»؛ وهذا منطقٌ مردودٌ بعض الشيء لأنّ قراءة أيّ جنسٍ أدبي «تُصْنع صنعاً» ولا تأتي عفواً.
3ـ وسأقول إنّ الدار لم تطوّرْ سياستها التحريرية، إذ يَنْدر أن تجد فيها كتاباً إلا وتشعر بضرورة إخضاعه لحذفٍ وتشذيبٍ وإعادةِ ترتيب، ويكاد مفهومُ «التحرير» يقتصر لدى الدار ـ كما لدى غالبية الدُور العربية ــ على التصحيح اللغوي والمطبعي. وفي رأيي إنّ هذا العيب يتحمّلُه بعضُ الكتّاب ممّن يعتبرون مخطوطاتِهم «منزّلة» لا يجوز أن تخضعَ للمسّ.
4ـ وسأقول إنّ الدار تعاني ضعفاً في الناحية التسويقية. فإلى ما قبل سنواتٍ مضت، لم تكن لديها وسائلُ تسويقيةٌ تعرّف بالكتب الجديدة سوى إرسال نسخٍ منها إلى الصفحات الثقافية في الجرائد، لتلقى الإهمالَ أو ما يشبهه. كما أنّ الدار لم توظّفْ مَن يسوّق مجلة الآداب في عهدها الورقيّ، ولا من يروّج كتبَ الأطفال والناشئة في المدارس.
وأمّا معارضُ الكتب، فكثيراً ما تكون أجنحتُنا فيها ـ باستثناء جناحنا في بيروت ـ صغيرةً، منزويةً، باهتةَ الديكور. والأسباب عديدة، منها: غيابُ الاهتمام المباشر بها نتيجةً لغياب أفراد العائلة عنها أحياناً (ها نحن نعود إلى العائلة!)، وارتفاعُ كلفة استئجار الأجنحة الكبيرة (إنْ وافق المنظّمون أصلاً على تأجيرنا إيّاها، حتى اقتنعنا أنّ لدى بعضهم نيةً في «تحجيم» وجودنا في هذا المعرض أو ذاك).
لكنْ، في المقابل، صدر في العام الماضي موقعٌ إلكترونيٌّ للدار، فضلاً عن صفحة «فايسبوك» استقطبتْ حوالى 316 ألف «لايك» حتى الآن، ويُنتظر أن يلعبا دوراً مهمّاً في المستقبل القريب. كما يصدر خلال أشهر قليلة موقعٌ جديدٌ لمجلة الآداب، يحتوي أرشيفَ المجلة كاملاً (60 سنة)، ويضمّ موادّ جديدة تركّز على الأدب من دون إهمال البعديْن السياسي والفكري.
النشر نضال، وهو ـ كأيّ نضالٍ آخر ـ ينتكس ويتقدّم. والتحدّيات هائلة، ولكنّ التصميم على التقدّم هائل أيضاً.

عاملٌ في دار الآداب، ورئيس تحرير مجلة الآداب (تعود إلى الصدور إلكترونياً خلال أشهر).