منتصف التسعينيّات، فيما كانت دار الجديد تمضي قُدمًا في نشر الشعر الحديث و المشاغبة، لبنانيًا، على إيديولوجيا إعادة الإعمار، باشرت بإعادة نشر مؤلفات شيخ بيروتيّ عُرِفَ في السياسة بما حاده عن الصراط المستقيم وفي اللغة بما ذهبَ إليه، في إثر لبنانيين سبقوه، إلى اقتراح قاموس جديد ومجدّد للغة العربية.وإذا كانت إعادةُ نشر مؤلفات العلايلي، بما فيها كتابه الملعون «أين الخطأ؟»، أغنت قائمة منشورات دار الجديد، فلقد أعادته إلى دائرة الضوء شخصيةً سجاليّةً، ودعوةً إصلاحيةً، فَهِمَ جيّدًا مَنْ خالَفَتْ عليهم خطورتها، فحاصروها ونجحوا في ذلك.

بمناسبة الذكرى المئويّة على ولادة العلايلي التي توافق هذا العام، أطلقت دار الجديد حملةً تحت عنوان «إختَرْ ـ إختاري نسبك» مخيّرةً الجمهور بين الشيخ العلايلي و«الخليفة» البغدادي.


■ ■ ■


بلا كلالةٍ يُذكّر القرآنُ، شأن سواه من الكتب المنسوبة إلى السماء، من يخاطبهم ويتوجه إليهم أن الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها ، وأنّها قريبةٌ قريبة رغم أنّ عِلْمَها لا يعلمُهُ إلا هو. وإلى أن تجيئ الساعةُ تلك، وأن يصدُق كلُّ كتاب وَعْدَه، لا حيلة لنا، نحن البشرَ، مِنْ أميّين وكتابيّين، سوى أن ننشَغِلَ بساعاتنا الأرضيّة المفصّلةِ على قياسنا شعوبًا وقبائِلَ وثقافاتٍ ــ وبعضهم يقول «حضارات»...
كنتُ أعيش توهماً لشهرة،
فيما القملُ يهمي من شعر
رأسي على رقبتي


على أن الزمن، هذه الجادّةَ الكبرى التي يمرّ بها اللاهوت والناسوت سواء بسواء، لا تخلو أحيانًا من حوادثَ مروريةٍ بين الساعتين: ساعةِ القيامة الكبرى التي يَسْتَعجلها البعضُ من منتظريها، وساعَةِ القيامةِ الصغرى التي تتنادى إليها الجماعاتُ طلبًا لـ «تغيير» ما يعود عليها بمزيد رخاء أو باسترداد كرامةٍ مضيّعة أو سوى ذلك مما يَفْتَنُّ به الأرضيّون.
ولعلّي لا أحتاج إلى مزيدِ إسهابٍ لأبْلُغَ القَصْدَ مِنْ وراءِ ذلك التشبيه، ولأفْتَرِضَ أننا اليومَ، جميعًا ، لا مُستثنية القَتَلَةَ منّا، أصحابَ السكاكين الهوليوديّة أو البوليوديّة ، وَسْطَ حادثٍ مروريّ من هذا القبيل. ولعلّي لا أحتاجُ إلى الإضافةِ أنّ ارتطامَ المركبتين ـ الساعتين على جادّة الزمن يُشبِهُ الحادث المروري إلا في هذا: أنّه لا يَقَعُ وقْعَةً واحدةً بلْ من خواصّه أن يقع بالتقسيط ــ بالتقسيط المملّ إلى حدٍّ يُمْكِنُ معه أن يتراءى للبعض منّا أنهم وَرَثةُ من وَقَعَ الارتطام بينهم ــ ورثة لا غير ــ لا من يَقَعُ هذا الارتطام بينهم.
ثمّ يكونُ ما يكونُ ويستفيقُ هذا البعض من وِراثته ليكتشف أنه الآن، هو، لا جدّه الأعلى مَنْ يَعْنيه الأمرُ، ومن يُنْتَظَر منه أن يبادِرَ إلى الاستجابة لتحدّيات هذه الموقعة ـ الحادثِ المروريّ، أو إلى الاستسلام لمفاعيله ومترتّباته.
بكلّ هذه المعاني يمكن القول إنّ الشيخ عبد الله العلايلي الذي نحتفل هذا العام بالذكرى المئويّة على ولادته وريثٌ ومورّث معًا: وريثٌ لأنّ الحادثَ المروريَّ بين الساعتين ــ الساعة الأخرويّة الملحميّة التي يتشوّقُ إليها بعضنا، والساعة الناسوتيّة التي يجتهد في سبيلها بعضنا الآخر ــ لأنّ الحادثَ المروريَّ ذاك الذي يقطع الطريق على بلادنا ومجتمعاتها، سابقٌ عليه، وعلى ولادته وعلى ما اقترحه من مَفَرّاتٍ ومن ومَناجٍ فقهية ولغويّة وسياسية (يعيبُ عليه البعض مثاليتها المفرطة)؛ وهو مورّث لأننا، في هذه اللحظات التي يَشحذُ فيها جُنْدُ الخلافةِ النابتةِ على الركام العملاق لذلك الارتطام سكاكينَهم، ويصقلون سيوفهم، نحتاجُ دفاعًا عن النفس، لا حبًّا بالآباء، إلى مَنْ نتدرّع بهم، ومن نستشهد بهم، ولو موتى، ولو عظامًا ومكاحلَ، فلا نرتعب أو نُقْتَلُ من الطعنة الأولى.
لم يكن الشيخ عبد الله العلايلي معصومًا في كلّ خياراته، والأرجح أن ما لزمه من صمتٍ خلال مراحلَ عدّة من حياته كان سبيله إلى التكفير عن مذاهب ذهبها ومواقف وقفها غير أنه، حتى في خياراته تلك، كان، مثله مثل آخرين ـ رأوا بعينيّ زرقاء اليمامة ـ يُنشد مَنْجىً ومَفَرًّا .
قدّرَت المقاديرُ أن يُكتب في سجل عام 2014 أنه العام الذي خرج فيه أبو بكر البغدادي على المسلمين وغيرهم خليفةً، والذي يوافق الذكرى المئة على ولادة العلايلي، ولحسن الحظّ أنّ المقاديرَ، أحيانًا ، لا دافعَ لها ولا رادّ.
لم تنتظر دار الجديد 2014 لتقترع للشيخ عبد الله العلايلي ولأقران له ـ تشرّفنا في خدمة نصوصهم، بل فعلت ذلك غداة نشأتها يوم باشرت، أواسط التسعينيّات الماضية، بالتعاون معه، إلى إعادة نشر مؤلفاته. هو كذلك ولكنّ اقتراعَ دار الجديد لا يُساوي شيئًا بين يدي ما نحن مدعوون إليه، واحدًا واحدًا، وواحدةً واحدة، من اختيار ما نُحِبّه لأنفسنا من نسب؛ ولحسن الحظّ أيضًا وأيضًا أنّ النّسبَ هذا ليس رحمًا عصبيّة يتحكّم بها النسّابون النصّابون مُنْتَحِلو علم الجينات المذهبية، بل خيارٌ شخصيّ بين أحد اثنين لا ثالث لهما: البَيْعَةُ على السَّمْع والطاعة، أو اللجاجة في السؤال: أين الخطأ يا كرام ؟ أين الخطأ ؟ أين الخطأ؟
* دار الجديد