في 1985، أقدمت نخبة مغربية تتكون من محمد بنيس، محمد الديوري، عبد اللطيف المنوني وعبد الجليل ناظم على تأسيس «دار توبقال» للنشر في الدار البيضاء. وفي 5 تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة ذاتها، أعلنت الدار عن إصداراتها الخمسة الأولى في احتفال في مطبعة «فضالة» في المحمدية، ضم عمال المطبعة والمسؤولين الإداريين، إلى جانب أعضاء «دار توبقال» ومدير قسم الكتاب في «سوشبريس» ومدير «دار زدني علماً» في بيروت.
مثّل تأسيس دار للنشر في المغرب على يد مثقفين، كتاب وجامعيين، فكرة جديدة في تاريخ الثقافة المغربية الحديثة. كل عضو من الأعضاء المؤسّسين كان قادماً من مجال ثقافي ومزوداً بتجربة حياتية. وقد عملوا جماعياً على تجسيد فكرة الدار من خلال مشروع ثقافي يعتمد الإرادة والمبادرة والتصور والاستمرارية. هذه العناصر تآلفت وتفاعلت في إعطاء الدار طابعاً ثقافياً، يستجيب لوضعية الثقافة في المغرب، ويفتح لها أفق التفاعل والتكامل مع حركة النشر العربية.
منذ إصداراتها الأولى، سعت الدار إلى احتضان أعمال تبرز الحركية التي أصبحت الثقافة المغربية تعرفها منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كما توجهت نحو ترجمة أعمال ذات تأثير في الفكر والإبداع على المستوى العالمي. وكان الهدف بناء نموذج ثقافي، ينطلق من إمكانية الانتقال إلى كتاب مغربي جديد، يكتسب شرعيته من الكفاءة الفكرية، ومن حرية الرأي والتعبير، ومن الجرأة على الإبداع، ومن جمالية تصميم الكتاب من حيث الطبع والإخراج. وهي جميعها تركت رنينها منذ اللحظة الأولى في الأوساط الثقافية المغربية ثم في البلاد العربية.
وبسرعة، عبّر كتاب وأدباء ومترجمون مغاربة عن رغبتهم في نشر أعمالهم ضمن منشورات الدار، ولم يتأخر كتاب ومبدعون ومترجمون عرب عن التعبير عن الرغبة ذاتها. هكذا نشرت «توبقال» وترجمت أعمالاً لكتاب ومبدعين من توجهات فكرية وجمالية مختلفة، وحضر فيها الشبان إلى جانب الكبار، بالقيمة نفسها وبالاعتبار ذاته.
مثّل تأسيس دار للنشر على يد كتاب وجامعيين فكرة جديدة في تاريخ الثقافة المغربية

وإلى جانب إصدار الكتاب، عملت الدار على تنظيم لقاءات مجموعة من مؤلفيها مع جمهور الطلاب والمثقفين في معارض الكتاب وفي أكثر من مدينة. وما زلنا نتذكر باعتزاز تلك اللقاءات التي دعونا إليها مجموعة من المؤلفين، من بينهم جاك دريدا، وعبد الفتاح كيليطو، وعبد السلام بنعبد العالي، وأدونيس، وإدغار موران، ومحمود درويش، وبرنار نويل، وعبد الأحد السبتي، وعبد الله حمودي.
لم يكن عملنا سهلاً، فتخلُّف الطبع والتوزيع كان يعترض سبيلنا. كما أن محدودية عدد القراء حدت من مغامرتنا. وقد تحملنا من أجل الاستمرارية كل ما كنا نجد فيه دفقاً من الأمل. فنحن كنا نعلم أننا نشتغل في أوضاع ثقافية وتقنية يصعب فيها إنشاء مشروع ثقافي مستمر، فاعل وحر.
ولم يكن لنا اختيار آخر غير تحمل المزيد من الأعباء، لأننا كنا نشعر، رغم كل هذه العوائق، أنّ إنشاء مشروع ثقافي ممكن في المغرب إن تحققت إرادة جماعية، تنظر إلى المستقبل بعين واثقة مما تراه في البعيد.
ثلاثون سنة مرت على ذلك اليوم، 5 نوفمبر 1985. نقول إنها عمر جيل. أصدرت الدار خلالها أكثر من خمسمئة عنوان (في طبعتها الأولى فقط)، ونوّعت عبر امتداد السنوات سلاسل إصداراتها، واجتهدت في تجديد شكل الكتاب، وفي مواكبة إمكانات التواصل مع القراء والمؤلفين والمؤسسات العربية والدولية. ومن المكتسبات الرمزية للدار حرصها على احترام حقوق المؤلفين والمترجمين، وحقوق دور النشر الأجنبية التي تختار بعض عناوينها للترجمة.
ثلاثون سنة عشنا فيها، بكل مسؤولية، من أجل المساهمة في تحديث الثقافة المغربية والعربية. ونحن نقف اليوم لنتأملها، في زمن تبدل فيه المغرب، وتبدلت مكانة الكتاب في المجتمع وعادة القراءة في عالم الكتاب الرقمي. ولا نخفي شيئاً عن أنفسنا، فنحن نحمل أحلاماً أكبر من جسدنا ومن الزمن.
لذلك نتشبث بـ «توبقال»، بما هي فكرة ثقافية قبل كل شيء. ولنا طموح أن يتسلم المشعل منا جيل شاب، يؤمن بالفكرة على طريقته، ويرحل بها ويبدع، من أجل مغرب تصبح فيه الثقافة ضرورة من ضرورات حياة الحرية والكرامة.
ونتوجه، في هذه المناسبة، بتحية التقدير والوفاء، لكل من كان إلى جانبنا، من مؤلفين ومترجمين وموزعين ومكتبيين وصحافيين. ونعبّر عن امتناننا للطاقم الإداري والتقني الذي أخلص في عمله للرفع من شأن الدار، كما نشكر كل الجهات التي دعمت إصداراتنا وأنشطتنا، فبفضلها اكتسبنا القدرة على التشبث باختياراتنا والمضي في الطريق الذي كان على الدوام طريقنا.

هيئة «دار توبقال»: محمد بنيس، محمد الديوري، عبد الجليل ناظم