ما الذي يحدّد معيار طول الرواية؟ بالأحرى، متى نعتبر الرواية طويلة أو قصيرة؟ متى تكون نوفيلا؟ هل المعيار هو عدد الصفحات، أم مقدار الملل؟ ما مغزى الإشارة إلى طول الرواية، ولو كانت ألف صفحة، إن لم نشعر بالملل؟ وفي المقابل، ما مغزى الإشارة إلى قصرها إن أشْعرَتْنا النوفيلا – أو حتى القصة – أنّ وطأتها تكاد توازي وطأة مجلّدات بكاملها؟ وخاتمة الأسئلة: ما معنى الرواية، وهل لها تعريف عربي خاص؟
ستواجهنا هذه الأسئلة أثناء وبعد قراءة رواية اللبنانيّ أحمد محسن «وارسو قبل قليل» (دار «نوفل»)، التي دخلت القائمة الطويلة للجائزة العالميّة للرواية العربية لهذا العام. وستزداد أهمية هذه الأسئلة حين يكتشف القارئ أنّ محسن يحاول سرد حكاية تمتد بين مدينتين هما وارسو وبيروت (مروراً بحطة باريسيّة مؤقتة، وعبور سريع في فلسطين)، على امتداد حربين ابتداءً من معسكرات الاعتقال النازيّة وصولاً إلى حرب تموز عام 2006؛ ضمن شكلٍ روائيّ يجعل بطلَيْ الرواية: الجد يوزيف، والحفيد جوزيف، يتناوبان السرد فصلاً إثر آخر، مع أكثر من عشر شخصيّات أخرى. وتكمن أهميّة المحاولة في أنّ محسن يريد كتابة هذه الحكايا، المتوازية والمتقاطعة في آن، في نوفيلا لا تتجاوز 110 صفحات.
تبدأ الرواية على لسان الجد وتنتهي على لسان الحفيد، على إيقاع موسيقى شوبان التي تبدو أشبه بحلم عابر يرسم خلفيّة الرواية والحروب المتعاقبة والهويّات المتناقضة، ويحاول كلّ من يوزيف وجوزيف إبطاءه قدر الإمكان بهدف النسيان. تعمل الموسيقى الخفيّة هنا بمثابة ممحاة آلام. هذا ما نجده واضحاً على نحو أكبر في قصة الجد. أما الحفيد فيبدو أكثر تشتّتاً وضياعاً، بخاصة أنّ الهويات المتعاقبة أثقلت كاهل ذاكرته وأحلامه. بدت تلك الهويّات سوطاً آخر يُكمل جلد الجسد بعدما تمزّقت الروح؛ ورواية «وارسو قبل قليل» محاولة جريئة في كتابة ذاكرة الحروب وصراع الهويّات عبر الجسد، بصرف النظر عن مدى نجاح أو إخفاق الكاتب في هذا الهدف.
محاولة جريئة في كتابة ذاكرة الحروب وصراع الهويّات عبر الجسد

أحمد محسن روائي بخلفيّة صحافيّة. يتبدّى هذا الأمر بوضوح في المشاهد الوصفيّة للمدن، والمشاهد الخارجيّة عموماً. أما عند دخول مجال دواخل الشخصيات، فقد انتصر الصحافيّ حتى كاد يمحو الروائيّ تماماً. وكما تناوب بطلان على البوح، كان السرد أسير طرفين يحاول كلٌّ منهما جذب الدفّة إليه: صحافيٌّ بلغةٍ تقريريّة حياديّة، بخاصة في قصة الجد التي تبدو أقرب إلى بورتريه صحافيّ؛ وراوٍ هو الكاتب نفسه الذي تسلّل إلى جميع تفاصيل الرواية إلى حدٍّ كادت فيه الشخصيات تبدو عقولاً مختلفةً تنطق بلسان واحد. إنها لعنة ميلان كونديرا مجدداً حيث يختلط رأي الكاتب مع أفكار شخصياته إلى حدّ التماهي التام. بالطبع، وكأيّ رواية أفكار، سنجد كليشيهات معتادة: المرأة القادمة من خلفيّة دينيّة منغلقة، فتدخل حلبة مغامرات الجسد، رجال متديّنون متطابقو السمات الجسديّة والنفسيّة، نساء مختلفات يعبرن سريعاً في الأحداث كي يكنّ «هديّة» للبطل، أحداث تاريخيّة كبيرة تتضاءل بحيث تصبح مجرد رقمٍ مرسومٍ على روزنامة أيام الشخصيّة المحوريّة، شوارع ومدن وساحات وأفلام وروايات واقتباسات ليست موجودة إلا كي تخدم هدفاً مؤقتاً هو حكاية البطل نفسه،... البطل المثقّف المتنوّر الخارج من عباءة التخلّف والقادم كنبيّ ينشر دين التقدّم والانفتاح. عناصر قرأناها في عدد ضخم من الروايات العربيّة، بل يمكن القول إن معظم الروايات العربيّة لا تخرج عن هذا التنميط إلا بدرجات ضئيلة يحدّد مقدارها مرجعيّة الكتّاب التي تنوّعت حسب الموضة التي تنتهي في أوروبا وتصل إلينا باليةً باهتةً بفعل المسافة، أو بحسب ذائقة المترجمين ودور النشر التي ترسم ملامح مشهد الكتابة العربيّة تبعاً لأهواء شخصيّة.
يؤكّد النقّاد المسرحيّون أهميّة كل قطعة ديكور، وكل كلمة، وهنيهة صمت، في المسرحية. لا يجب أن يكون هناك تفصيلٌ زائد أو نافل، إذ لا بد لكل تفصيل من معنى كي يكتسب شرعيّة وجوده على الخشبة. وكذا الأمر بالنسبة إلى السرد؛ ما مغزى تعدّد المدن إن لم نميّز سماتها وتبايناتها؟ وما مغزى تضخيم عدد الشخصيات إنْ كانت أشبه بكومبارس شبه صامت، وما مغزى تدوين التواريخ بدقّة إن لم تكن الرواية ستقدّم جديداً لم نقرأه في مقالات الرأي السياسيّة أو نشاهده على شاشات الأخبار العاجلة والتحليلات الاستراتيجيّة؟ ليست الرواية نشرة أخبار أو كتاب تاريخ أو حتى بروفة لسيناريو سينمائيّ. وليس الأدب وسيلةً لغايةٍ أكبر منه، بل هو غايةٌ بذاته. ربما يكون إدراك هذا الأمر تحريضاً على كتابة أدبٍ مختلفٍ فعلاً.
«وارسو قبل قليل» مشروع جيّد لرواية لم تُكتَب فعلياً، وأحمد محسن مشروعُ روائيٍّ قد ينجح في محاولاته القادمة. لا تكفي الفكرة الجميلة، أو اللغة السلسة، أو الالتقاط البارع لتفاصيل التاريخ الخفيّة المتكرّرة، كي نكتب رواية حقيقيّة. الرواية ليست حكاية فقط؛ هذا هو الفارق بين الروائيّ والحكواتيّ.