أمام الكمّ الهائل من الكتابات المستمدّة من واقع الحروب المستعرة في المنطقة منذ سنوات، لم يعد هناك ما يغري لمزيد من القراءات التي تستعجل توصيف فظائع الحروب، أو تحاول محاكاتها، أو الاعتياش عليها. ما يعني أنّ كلّ كتاب موسوم بواحدة من مفردات الحرب أو الموت، بات يَعِد بذات الكلام الإنشائيّ الممجوج، من كاتب يريد إقناع قارئه بأنه الأقدر على توصيف واقع الحرب.
ولن يختلف هذا الشعور حين تقع بين يديك مجموعة شعرية لشاعر عراقيّ شاب، كاظم خنجر، تحمل عنوان "نزهة بحزام ناسف" (دار مخطوطات ـ هولندا ـ 2016). غير أنّ ذلك الشعور سيتبدد مباشرة مع قراءة أول نصوص المجموعة "خبر عاجل ـ العثور على مقبرة جماعية بالقرب...". منذ الكلمات الأولى يعد خنجر بلغة مختلفة، ونصوص من الحرب وليست عنها. "يقول التقرير الطبي بأنّ كيس العظام الذي وقّعت على استلامه هو أنت. ولكن هذا قليل. نثرته على الطاولة أمامهم. أعدنا الحساب: جمجمة بستة ثقوب، عظم ترقوة واحد، ثلاث أضلاع زائدة، فخذ مهشّمة، كومة أرساغ، وبعض الفقرات. هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخاً؟" هي الحرب إذاً بكلّ عبثيتها، وسورياليتها تعيد تشكيل المفاهيم، تحوّل الجسد إلى كومة عظام هي أقلّ من أن تكون أخاً "منذ ساعة وأنا أرتب هذه العظام الرطبة في بطن التابوت، محاولاً إكمالك. وحدها تدري المسامير التي على الجانبين أنّ هذا قليل".
نثر متروك لاتساعه ورحابته يلامس تفاصيل الواقع

تتوالى نصوص خنجر للتأكيد على أنّها نثر متروك لاتساعه ورحابته، من حيث كونه الأقدر على ملامسة تفاصيل الواقع بكلّ أوجاعها. وهي إذ تخرج بهذه الهيئة فلأن أحاسيس كاتبها اصطدمت بالواقع، فتحوّل الكلام المكتوب إلى تجسيد لتلك المشاعر المعجونة بالدمار والأشلاء ورائحة دماء تنثرها الحرب هباءً. يعيد الشاعر الشاب عبر "نزهة بحزام ناسف" شيئاً من روح النثر إلى القصيدة العراقية. وهي مفارقة مؤلمة كحال كلّ ما تنتجه الحروب، فهذه الروح تستعاد بينما تأكل الحرب أرواح العراقيين التي تعود لتتقمص على هيئة قصيدة لا تستعطف قارئها، وإنما تخطف أنفاسه بقسوتها المستمدة من بساطة الكلمات التي تبنيها، والمشابهة لبساطة رصاصة تخترق الجسد، أو قذيفة تحوّله أشلاء، فالحرب هي "أن تقف بذراعين صامتين، على جثّة ابنك المتساوية بالإسفلت، ويردد حولك المارّة: بأنهم داسوا عليه بجنزير الدبابة".
لا تختلف نصوص "نزهة بحزام ناسف" عن تجربة كاظم خنجر الذي سبق أن أسّس، مطلع عام 2015، مع مجموعة من أصدقائه، الشبان العراقيين، ما أطلقوا عليه اسم "ميليشيا ثقافية"، في مدينة بابل العراقية، والتي أرادوا منها مواجهة الموت اليوميّ بالشعر. فراحوا "يغيرون" شعرياً على حقول الألغام، وأماكن الانفجارات، والمشافي، ليقرأوا الشعر على أسماع الحجارة والأسرّة، والمقابر. وإن بدت الفكرة للوهلة الأولى غريبة، إلا أنها شكّلت حدثاً استطاع استقطاب الكثير من المتابعين، عبر الفيديوهات التي انتشرت لأولئك الشبّان يلقون قصائدهم وسط الدمار، فيمنحونها بذلك مكاناً يشبه أرواحهم المكلومة التي اجترحتها، حيث السيارات المفخخة توزّع الأجنحة على كلّ شيء "جناح لجلود ركاب الباص. جناح للدراجة الهوائية وراكبها والخبز الذي معه. جناح للإسفلت وأعمدة الكهرباء ولافتات المحال. جناح لطبلة الأذن. جناح للعاجل في التلفاز. هكذا هي السيارات المفخخة. تمنح الأجنحة لكلّ شيء".
بإيقاع مشابه لإيقاع الحرب تأتي نصوص خنجر، فتجترح من اللغة ما يكفي للحديث عن عبثية الموت ومجانيته، حيث تتشابه الجثث حين تفقد رؤوسها "لا ندري ما هي الجثث التي تعود إليكم. والجثث التي تعود إليهم. ومن ثمّ لا رؤوس تحدد ذلك". وسط ذلك كله تصبح صرخة "أعطوني رأسي. أستطيع العودة به إلى البيت" صرخةً واقعية خارجة من رحم موت يلقي حممه على العراقيين منذ أعوام طويلة، فتجعلهم يقولون: "نحن العراقيين، نتوسّد الأسلحة ونتغطى بعجين العبوات. نحن العراقيين دودة نائمة في رمّانة العالم".
من عتمة الحرب الحالكة، تخرج "نزهة بحزام ناسف" صرخةً تسمّي الأشياء بأسمائها من دون مواربة، مطوّعة الحرب لخدمة نصّ شعريّ يقول إن العراق ما يزال قادراً على الإبداع وانتاج أشكال جديدة من الحياة رغم كلّ الموت.