فاضل العزاوي


في عام 1969 كنت معروفاً كشاعر نشر الكثير من القصائد في الجرائد والمجلات العراقية، ولكن أيضاً في مجلات عربية تمتلك سمعة أدبية كبيرة مثل «شعر»، «الأديب»، «الآداب»، «المجلة». لذلك، توقع الكثير ممن يتابعون أعمالي أن أصدر ديواني الأول، وبالذات بعد نشر «البيان الشعري» الذي كان قد أثار ضجة ثقافية على المستويين العراقي والعربي، فضلاً عن دوري في إصدار مجلة «الشعر 69» التي عرفت بروحها الطليعية واستقطبت حولها الكثير من شعراء الحداثة. كان يمكنني أن أفعل ذلك، لكنني فضلت أن أفاجئ الوسط الثقافي، في خضم المناقشات الدائرة حينذاك حول الشعر والكتابة، بعمل طليعي يعبّر عن هواي الأدبي أكثر من سواه، ويقدم منظوراً جديداً أكثر جذرية واتساعاً إلى العملية الإبداعية.
كنت في الحقيقة قد بدأت بكتابة "المخلوقات الجميلة" في أواسط عام 1965 على شكل شذرات ومقاطع قبل أن أصوغها في عمل يمتلك وحدته الخاصة به، وهي شذرات ومقاطع نجمت عن تجارب كثيرة كنت أقوم بها، مستعيناً بآلة التسجيل، على التدفق اللغوي واستدعاء الحالات الحلمية من خلال الرسم والموسيقى بالذات. حينذاك كانت ثمة فكرة سائدة عن «الشكل المقدس» الذي لا ينبغي انتهاكه: قواعد ثابتة محددة بالمسطرة لكتابة الرواية والقصة والقصيدة والمقالة. أما فكرة الشكل المفتوح الذي يمكن أن تتداخل وتتحد فيه مختلف الأجناس فكانت مما يصعب حتى تصوره.
ومع ذلك كانت الفكرة ترتبط بما هو أبعد من التجديد الشكلي، برؤية جديدة للحياة. فقد دفعتنا التجارب السياسية القاسية التي مررنا بها، وخاصة انقلاب شباط 1963 الدموي في العراق وهزيمة حرب حزيران 1967 إلى الشك بالكثير من القيم الراسخة داخل المجتمع والثقافة وإلى السعي لتحرير العقل من كل قيوده وأوهامه التاريخية المتجذرة. وفي الوقت ذاته، كان العالم كله يشهد ثورة تحريرية في الفكر والفن والثقافة غيرت المجتمعات الغربية نفسها من حال إلى حال. هكذا وجدت نفسي، بعد تجربة ثلاثة أعوام من الاعتقال والسجن، متحرراً من كل وهم أيديولوجي قديم، مدركاً تراجيدية العلاقة القائمة بين الضحية والجلاد، ليس في السياسة فحسب، بل في الفكر أيضاً، وقبل ذلك معنى أن أكون ضد الأوهام كلها.
في أواسط الستينيات عملت مترجماً ومحرراً ثقافياً للعديد من الصحف في العراق، فكانت تصلني معظم الصحف والمجلات الإنكليزية والأميركية المهمة، فضلاً عن أحدث الكتب الصادرة في الغرب، ما جعلني أتابع كل ما يصدر ويحدث هناك، وكأني أعيش داخلها، مثلما كنت أنشر كل يوم أهمّ ما أجده فيها: مقالات سياسية وأدبية ومقابلات مع شعراء وكتّاب وتقارير عن كتب وحركات... إلخ. أكيد أن ذلك ترك تأثيره فيّ وتعلمت منه أيضاً. ومع ذلك، فإن نص "المخلوقات الجميلة" يكاد يكون نسيج وحده، حينذاك على الأقل. أتذكر أنني حينما زرت لندن في عام 1970، أي بعد عام من صدور الكتاب، التقيت الطيب صالح الذي كان مسؤولاً عن القسم الثقافي في البي بي سي التي أجرت معي مقابلة جرى التركيز فيها بصورة خاصة على الشكل الجديد الذي اقترحته "المخلوقات الجميلة" التي كان الصديق الشاعر والمترجم صلاح نيازي، الذي كان يعمل في الإذاعة أيضاً، قد قال عنها إنها تكاد تخلو حتى مما يماثلها في الأدب الإنكليزي.
لم تكن حينذاك فكرة «النص المفتوح» و«الميتاقص» معروفة أو سائدة كشكل جديد في الكتابة، وهو ما انتبه إليه الناقد الدكتور أحمد خريس الذي اعتبر «المخلوقات الجديدة» و«الديناصور الأخير» ـ وهي كتابة ثانية للمخلوقات الجميلة ـ من أوائل الأعمال التي طرحت فكرة النص المفتوح والميتاقص في الكتابة العربية الجديدة. يمكن المرء أن يقرأ على غلاف «المخلوقات الجميلة» كلمة «رواية» وعلى غلاف «الديناصور الأخير» كلمة «قصيدة ـ رواية». ولكن ذلك لا يعكس الحقيقة إلا جزئياً. ففي التقديم القصير للمخلوقات ثمة ما يكشف عن طبيعة النص أكثر مما تفعله العناوين: «في هذه الرواية المفتوحة يعود كل شيء إلى نفسه ويكتسب براءته الخاصة به حتى في اللغة لتصبح الرواية قصيدة ومسرحية وفيلماً ولوحة وموسيقى في الوقت ذاته، بدون أن تعني ذلك»، ثم «إنها تتحدث عن نفسها بطريقتها الخاصة جداً، حيث لا تقول شيئاً معيناً بالذات من أجل أن تقول كل شيء».
حينما كتبت «المخلوقات» كنت أريد كتابة ما يشبه الملحمة النثرية، ربما بتأثير من رواية «يولسيس» لجيمس جويس

أما الآن، وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن على كتابة النص ونشره فإنني أميل إلى اعتباره قصيدة نثر أكثر من اعتباره قصة. حينما كتبت "المخلوقات" كنت أريد كتابة ما يشبه الملحمة النثرية، ربما بتأثير من رواية "يولسيس" لجيمس جويس. ولذلك قسمت النص إلى أناشيد Cantos كما في الملحمة، لا إلى فصول كما في الرواية. صحيح أن هناك قصة ما عن عالم شرير يحيل سكان العالم إلى أنصاب ليحرر نفسه من الآخرين، حالماً بالعيش وحيداً في كون مهجور لا أحد فيه سواه، لكنه يخفق في مسعاه ذاك حين يرى قاتليه يزحفون إليه من كل مكان في التاريخ فيقرر أن يختار نهايته بنفسه، بدل أن يستسلم لأعدائه. ولكن الصياغة شعرية دائماً، لا بلغتها الجديدة فحسب وإنما أيضاً وقبل كل شيء بمنظورها إلى موضوعها وتداخل الأزمنة فيها وتحول المؤلف نفسه إلى بطل يتدخل في مناقشة وقائع القصة. وبالفعل حين تُرجمت مقاطع طويلة من المخلوقات إلى الإنكليزية والألمانية ونشرت في العديد من المجلات والأنطولوجيات، اعتُبرت قصائد نثر. كل ما فعلته فيها هو أنني أضفت عناوين إلى تقسيماتها الجديدة.
لقد أثار الشكل الكتابي الجديد للمخلوقات مشكلة للرقابة التي كانت قائمة حينذاك في العراق. فقد قدمت الكتاب اليها في نهاية عام 1967 أو ربما بداية عام 1968، ولكنها ظلت شهوراً طويلة تماطل في الموافقة على نشره. وأخيراً قصدت برفقة صديق كان على صلة بمدير الرقابة، وهو موظف تقليدي، لنفهم منه جلية الأمر. فقال الرجل بكل صراحة إنه لا يستطيع المغامرة بالموافقة على مثل هذا العمل الذي لم يصادف ما يماثله في كل حياته، عارضاً علي كطريقة ملتوية للرفض أن أحذف كل ما كان قد أشّر عليه باللون الأحمر، متوقعاً مني أنني سوف أرفض بالتأكيد عرضه ذاك، وخاصة أنه كان قد طلب حذف ما لا يقل عن ثلث الكتاب، ففاجأته بالموافقة. وقد رويت بعد ذلك قصة هذا الرقيب الطريف بطريقة فكاهية في مقدمة «الديناصور الأخير» الذي نشر بعد أعوام من ذلك في بيروت. لقد أدى الحذف إلى الكثير من التجريد للنص بالطبع، ولكنه لم يفقده القدرة على إثارة السؤال عن حرية الكتابة.
حينما صدرت «المخلوقات الجميلة» أثارت عاصفة من المناقشات والجدل حولها، ففيما اعتبرها التقليديون انتهاكاً لكل ما كانوا قد تعلموه من قبل، ظهرت أعداد كبيرة من المقالات والدراسات الحماسية المشيدة بها من قبل كتاب ونقاد عراقيين من أمثال نجيب المانع وعادل كامل وأحمد خلف وجليل القيسي، مثلما كتب عنها الكثير أيضاً في بلدان عربية مثل مصر (أحمد عبد المعطي حجازي في «روز اليوسف») ولبنان وسوريا والمغرب والكويت وقدمت تقارير عن الضجة حولها في العديد من الإذاعات.
كان أول ما أثار العديدين هو العنوان «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» الذي اعتبره أحد الأصدقاء الشعراء حينذاك "قصيدة بحد ذاته"، وأنه سيظل مشعاً لنصف قرن على الأقل. ولكن كان ثمة أيضاً من أرعبه العنوان. بعد أكثر من ثلاثين عاماً على نشر «المخلوقات» استضافتني جامعة العين في الإمارات في ندوة حول أعمالي في نهاية تسعينيات القرن الماضي. قبل بدء الندوة جاءني الدكتور العراقي الذي طُلب منه تقديمي إلى الجمهور وقال لي مرعوباً إنه لن يستطيع ذكر عنوان «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» في تقديمه، خشية أن يعرضه ذلك للمساءلة، فضحكت ساخراً دون أن أرد عليه. وبالفعل، تجاوز كتاب «المخلوقات» في تقديمه ولم يُشر إليه. ولكن ما حدث بعد ذلك كان درساً بليغاً لأمثاله. فقد انتقده الجمهور الحاضر لجهله بالعمل وعدم الإشارة إليه أو الحديث عنه، مثلما تركزت المناقشة التي شارك فيها العديد من أساتذة الجامعة وطلابها على «المخلوقات» بصورة خاصة، وبالطبع دون أن يتعرض أحد منهم للمساءلة.
بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على نشر «المخلوقات»، أشعر بأن أي محاولة للتخطي في الأدب ونجاحها واستمرارها تتطلب ظروفاً تاريخية توحي بالقدرة على صعود المجتمعات وازدهار روحها المتطلعة إلى تغيير الحياة. أما أزمنة الانحطاط فلن تنتج سوى كتّابها الذين يليقون بها.