هذه المرّة، سنتعرّف إلى محمد ملص (1945) بمرآة أخرى. سندع السينمائي فيه جانباً، لنقتفي أثر الكاتب، وكيف طرقَ باب الكتابة؟ فصاحب أفلام «أحلام المدينة»، و«الليل»، و«سلّم إلى دمشق» لطالما كان يلجأ إلى القلم حين لا يجد الفرصة في الوقوف وراء الكاميرا، لتسجيل يومياته، في مهنة تكاد تكون نادرة عربياً. كما أنه ينتمي كمخرج إلى «سينما المؤلف». إنه مؤلّف في السينما وفي الكتابة معاً. الأمر لا يتعلّق بنزوة عابرة، فهو أنجز إلى اليوم نحو سبعة كتب. رصيد لا يستهان به كي نحاوره ككاتب. هكذا تراكمت لديه دفاتر اليوميات والسيناريوهات الأدبية، قبل أن ترى النور في كتبٍ مطبوعة، على دفعات. قد لا يعلم قرّاء كثر بأن محمد ملص بدأ حياته روائياً قبل أن يحقّق أياً من أفلامه الروائية، وذلك أثناء دراسته السينما في موسكو، أواخر ستينيات القرن المنصرم. روايته اليتيمة «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» كتبها في موسكو، بتأثير من الروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي كان يشاركه الغرفة نفسها، وكان منهمكاً طوال الوقت في الكتابة، وإذا بالعدوى تصيب شريكه. لم يكن بحاجة إلى اختراع فكرة لروايته، فقد هطلت عليه دفعةً واحدة الصور التي كان يختزنها عن مدينته القنيطرة، لتنتظم تدريجاً في وعاء روائي يسترشد بمنجز تيار الرواية الفرنسية الجديدة، وفي طليعته آلان روب غرييه، كطراز من الكتابة المضادة، لكن هذه الرواية ستتأخر في الصدور نحو عشر سنوات على كتابتها، إثر رفضها رقابياً في دمشق، لتصدر لاحقاً في بيروت (1979). في كتابه الثاني «المنام» (1990) لن يبتعد عن السرد الروائي في توليف منامات فلسطينيين يعيشون في المخيّمات اللبنانية، إذ استثمر المادة الخام الموجودة في شريطه التسجيلي الذي حمل الاسم نفسه، وأثّث منها عالماً روائياً، كما أنه سيستخدم في كتابه «الليل- سيناريو سينمائي» (2003) سجادة الحكي الروائي في أربع طبقات سردية هي: «الذاكرة المشتهاة»، و»الذاكرة المحكيّة»، و»الذاكرة المعيشة»، و»الذاكرة المتخيّلة»، في كتابة تقف على تخوم الشعر وغواية المتخيّل الروائي لمواجهة «همجية محو الذاكرة». أما في مفكرته «الكل في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط» (2003)، فيستعيد مناخات فيلم تخرّجه من معهد السينما الذي كتبه بالشراكة مع صنع الله إبراهيم عن المعتقلات السياسية، وزمن جمال عبد الناصر وهزيمة حزيران، من دون أن يتخلى عن نبرته الأدبية وشغفه بالمجاز. وسيقتطف في كتابه «مذاق البلح» (2010) نتفاً من مفكّراته في موسكو وبرلين، وبورتريهات عن بعض أصدقائه، وغرفة المونتاج، ببلاغة مشهدية تنطوي على أوقات بهجة وهزائم وخيبات. كما أفرج أخيراً عن مفكرة أخرى بعنوان «وحشة الأبيض والأسود» (2016)، وهو أرشفة لمشاريعه السينمائية المجهضة، ومكاشفات عن أحوال الرقابة، والمناوشات بين الرقباء و»سينمائيي العين البصيرة والكاميرا المفقودة». نحن إذاً، إزاء حالة شغف بالكتابة، وولع بالصورة، يلتقيان في فضاءٍ واحد. «كلمات» التقى محمد ملص في حديث عن وجهه الكتابيّ، وكان الحوار التالي:
خليل صويلح
■ اخترت دراسة الفلسفة في الجامعة، قبل أن تحصل على منحة لدراسة السينما في موسكو، ما هي المكوّنات الأولى لشغفك بالقراءة، وولعك في الكتابة لاحقاً؟
ـــ على الأرجح، إن شغفي بالصورة سبق شغفي بالقراءة والكتابة، فقد نشأت في بيئة دمشقية شعبية لا تهتم بالقراءة في الأصل، وبفقدان أبي اضطررت للعمل باكراً، ولم يكن متاحاً أمامي إلا اختزان الصور، والاعتناء بكل نأمة وتفصيل بما يحيط بي، في ذلك الحي الشعبي الذي كان ينبض بضجيج الحياة، على خلفية ما كانت تعيشه البلاد حينذاك من انقلابات عسكرية وصراعات سياسية عصفت بها في الفترة ما بين 1954و1958، ولعل هذه الوقائع كانت تكتنز في داخلي بقوة، وبدخولي الجامعة تعرّفت عن كثب إلى أهمية القراءة والكتابة مدفوعاً برغبة التميّز في المقام الأول، إذ أنجزتُ أبحاثاً تتعلّق بالموضوعات التي كنّا ندرسها، وقد كان للأستاذ عبد الكريم اليافي دور مؤثر في دفعي نحو تلمّس الكتابة، خصوصاً بعد قراءة كتابه «شموع وقناديل في الأدب العربي»، لكنها الكتابة المحمولة على احتياج ذهني وفكري أكثر مما هو أدبي، وتطلعها إلى فضاء عقلاني لوعي الذات والعالم المحيط بي. أما هواء العدوى الأدبية، فأنا مدين به إلى الروائي صنع الله إبراهيم إذ تشاركنا الغرفة «403» أثناء دراستي في معهد السينما في موسكو، وكان معظم وقته يجلس وراء الآلة الكاتبة غارقاً في انجاز (نجمة أغسطس)، فأصابتني عدوى لوثة الكتابة، إذ كنّا نجلس دائماً وسط الغرفة، فنبدو أشبه بتكوين مسرحي على منصة، جدارها الرابع هو الغابة التي تبدو كأنها المتفرج الوحيد على عروضنا اليومية هذه... العروض التي كان يتخللها جون دوس باسوس، وغراهام غرين، ودوستويفسكي، والسجن، والقنيطرة، والمرأة، والأفلام، وفي الختام وقائع منام الليلة الفائتة، لتندلق إثر هذه النقاشات دفعة واحدة، الصور المختزنة في الذاكرة عن مدينة القنيطرة المدمّرة بنوعٍ من التحدّي الروائي، فكانت روايتي الأولى «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» والتي ستصدر بعد سنوات عن «دار ابن رشد» في بيروت (1979). اليوم، حين أنظر إلى ما كتبته آنذاك، أجد نفسي تائهاً بين التعبير عقلياً عن الصور، والتعبير الوجداني لاقتناص مجاز أدبي في المقابل.

■ بمن تأثرت من الروائيين آنذاك؟
وجدت نفسي متورطاً
بكتابة اليوميات منذ أواخر الستينيات
حتى منتصف التسعينيات

ـــ آلان روب غرييه أولاً، فقد كانت موجة الرواية الفرنسية الجديدة في أوجها، كتيار أدبي مضاد، بالتوازي مع الأفلام المقتبسة عنها، وهو ما دفعني إلى كتابة رواية المكان أكثر من اعتنائي بالحدث. بالطبع لن أغفل بأن معرفة الآخرين ممن يدرسون السينما معي سواء الطلبة السوفيات، أو الجنسيات الأخرى بكنوز الأدب، دفعتني إلى تعويض ما ينقصني بقراءات أدبية محمومة، سواء ما يتعلّق بالأدب المعاصر، أو الأدب الكلاسيكي، وستعثر في الرسائل التي كنت أتبادلها مع أصدقائي، خطوة وراء خطوة، على نوعية المناخ الذي وضعتُ نفسي به، واللهاث وراء ما هو أدبي ومعرفي، وهذا ما ستلمسه أيضاً في رسائلي إلى زوجتي. ثم سألتفت إلى الأدب الروسي، إلا أنني لم أكن معجباً كثيراً بالأدب السوفياتي. أما أكثر من ترك أثراً في روحي إلى اليوم، فهو تشيخوف باللغتين العربية والروسية.

■ متى بدأت اكتشاف أهمية «اليوميات» في توثيق تجربتك، وما الذي دفعك إلى اقتحام هذا الحقل الاستثنائي عربياً؟
ـــ أفضّل أن أطلق على ولعي بكتابة اليوميات تعبير «الإثم»، الإثم الذي وجدت نفسي متورطاً به، منذ أواخر الستينيات إلى منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، إذ تبدو لي كتابة اليوميات ذات منحيين، الأول يتعلّق بالذاكرة المسجّلة، والثاني هو نوع من التعويض عن الكتابة الأدبية ذات الهوية الصريحة، فوفقاً لما يقوله رولان بارت فإن «اليوميات والمذكرات الحميمة بوصفها عملاً، بحد ذاته، لا يمكن أن يكون لها إلا مبررات أدبية بالمعنى المطلق»، وهي «نص تلوّنه ذاتية الكتابة»، وتالياً فهي إحاطة «بالكاتب والمسكوك اليومي لزمنه وميوله ومزاجه ووساوسه». ضمن هذا المفهوم، وقعت أسيراً لهذا الطراز من الكتابة الذاتية التي تضيء عتمة الداخل ومراياه المضمرة، ولأنني اعتبر نفسي سينمائياً أولاً، فقد اخترعت لنفسي أوهاماً نظرية للاستمرار بهذا النوع من الكتابة، وذلك بأن أسعى نحو أدبٍ بصري كي أمنح السينما مذاقاً أدبياً، إضافةً إلى أنني في السينما كنت مؤلّف أفلامي. ربما كان هذا الوهم هو من أدى دوراً إيجابياً في ما كتبته ونشرته لاحقاً، ودوراً سلبياً في ما اخترته لنفسي على صعيد السينما، وهما معاً، ليسا مأخذاً بقدر ما هما سمة في ما حققته أدبياً في نشر سيناريوهات بعض أفلامي، بالإضافة إلى المفكّرات الخاصة بالأفلام، وهذا ما نحّى الكتابة الروائية جانباً. بخصوص البذرة الأولى لكتابة اليوميات، أظن بأنها تعود إلى مرحلة الدراسة الجامعية في قسم الفلسفة، ثم بتأثير الظروف الصعبة التي عشتها حينذاك، فكثيراً ما كانت تختلج في داخلي صور من ذاكرة القنيطرة على نحوٍ خاص، وذاكرة الحيّ الشعبي الذي كنت اقطنه في دمشق، مما كان يدفعني لتسجيل صور متناثرة، وجد فيها أصدقائي مذاقاً أدبياً، كما عزّزت العلاقة الحميمة مع أحد الأصدقاء آنذاك، والذي كان يكتب الرواية والقصّة، كما تكتنز مكتبته بروائع الروايات العربية والمترجمة، قراءاتي الأدبية بنوع من الهوس، ولم أجد ملاذاً لهواجسي حينذاك إلا في كتابة يومياتي. وقد اكتشفت بين أوراقي نصّاً كتبته في تلك الفترة عن اليوم العالمي لحقوق الإنسان. أعتبره ابناً شرعياً لتفكيري آنذاك، بتأثير دراستي الفلسفة في الدرجة الأولى.

■ أين تكمن أهمية مثل هذه اليوميات الآن، وما الذي يحرّضك على إخراجها من الأدراج؟
ـــ أهمية هذه اليوميات، كما أراها، في كهولتي اليوم، تكمن في رؤيتها النقدية العالية والصارمة إزاء أوجاع تلك الفترة، ومحاولتها تأصيل النقد السينمائي الذي كان غائباً تقريباً، بالإضافة إلى تشريح أحوال الثقافة السورية، وملامسة أسباب العطب فيها، ومكابدات المبدع في مواجهة الرقابة والقمع اللذين حالا بسطوة العسف الفكري، دون تحقيق مشاريع كثيرة، وأجهضا أحلام جيل كان يتطلّع إلى ثقافة طليعية راسخة تعاكس التيار. ولعل استمرار القمع الفكري هو الذي قادني إلى المقارنة بين ما حصل في فترة كتابة اليوميات، وما يحصل اليوم من خراب، وهذا ما دفعني إلى مراجعة ما كتبته ونشره في كتابي «وحشة الأبيض والأسود: يوميات 1974- 1980» الذي صدر أخيراً (دار نينوى)، فقد انتابني شعور عميق بأننا (كمثقفين) لطالما كنّا نحذّر بأشكالٍ مختلفة، من وقوع هذا الزلزال الكبير الذي نعيش تحت وطأته اليوم، فقد كانت صرخة «آه» خلال إعادتي قراءة المخطوط، ترافقني عفويّاً مع كل صفحة في تلك الدفاتر، فقرّرت نشر هذه اليوميات بوصفها وثيقة أولاً، وشهادة حارّة عن تلك الأيام، وبالطبع كثيراً ما تأتي كتابة اليوميات بديلاً من الكتابة بالكاميرا، حين لا تتاح الفرصة لتحقيق ذلك.

■ أثناء مراجعتك دفاتر يومياتك، هل تشطب أفكاراً، أو أسماء شخصيات، أو وقائع، قبل دفعها الى النشر؟
ـــ أتعامل مع اليوميات عموماً كمسوّدات تحتاج إلى صياغة أدبية، نظراً الى أن بعضها مكتوب على عجل، إلا أنني رغم تجاوزي الشروط الرقابية بأطيافها كافة، أحرص على تجنب ما هو فضائحي، وقد أشرت في مقدمة كتابي «وحشة الأبيض والأسود» إلى أن اليوميات المنشورة في الكتاب هي ما يخصُّ الجانب السينمائي من الفترة التي كتبت عنها، وقد ألغيت منها، اليوميات الشخصيّة لأنها تقع في سياق مختلف لما أردته من الكتاب.
■ بالإضافة إلى اليوميات، أنجزت أكثر من نسخة مما تسميه «مفكّرة فيلم»، ما هي الظروف التي ترافق تدوين وقائع مثل هذه المفكّرات، وما المغزى من كتابتها؟
ـــ ما يدفعني إلى كتابة مفكّرة فيلم هو السعي الى الكشف عن المطبخ الحقيقي لصناعة وإبداع الفيلم بقصد المساهمة في تطوير السينما والنقد السينمائي في البلد، والكشف عن معاناة السينمائي بدءاً من بزوغ الفكرة في رأسه وحتى آخر لقطة من الشريط، بالإضافة إلى ما يمور من حياةٍ موازية في الكواليس. المفكّرة بمعنى آخر هي شريط مكتوب، وهذا ما قصدته بالطبع، بوهم منح السينما مذاقاً أدبياً، ومنح الأدب مذاقاً بصرياً.

■ تمتلك أرشيفاً ضخماً من الوثائق ودفاتر اليوميات والصور، هل لديك مشاريع جديدة للإفراج عن بعض محتويات هذا الأرشيف؟
ـــ عدا اليوميات التي تحتاج إلى أكثر من كتاب، انتهيت أخيراً من تحرير الرسائل التي كنت أتبادلها مع الناقد فيصل دراج خلال وجودي في موسكو، ووجوده في باريس، وما بعدها أيضاً، وستصدر قريباً في كتاب عن «دار قدمس». أعتبر هذه الرسائل شهادة موجعة عن عتبتي مشروعين ثقافيين مختلفين، وجدا نفسيهما حيال أسئلة جديّة عن معنى الحلم في مستقبل مختلف، قبل أن تنهار اليقينيات والأفكار تحت وطأة خيبة الأمل، ولعل ما دفعني لنشر هذه الرسائل، هو ثقتي بأن الرسالة لصديق، هي محاولة للبوح والتعبير عن الذات، وعن ما يدور في داخلك. وقد يصل هذا التعبير أحياناً إلى درجة من «التعرّي الداخلي»، بلا تردد أو مواربة. على الرغم من تصوري، أن على الرسائل امتلاك نبرتها الأدبية التي تمنحها مبرراً إضافياً لنشرها، فإني أدرك أن التعرّي الذاتي، أو أي شكل من أشكال الاعترافات، ما يزال يواجه الكثير من أنواع «الحجب». وأود أن أشير هنا إلى الغبطة التي انتابتني إثر قراءة المقدمة التي كتبها صديقي فيصل بعد اطلاعه على الرسائل، ولا أخفيك بأنني تمنيت - لفرط حساسيتها وعمقها ونزاهتها- أن تُقرأ على قبري. هناك أيضاً السيناريو الأدبي لفيلم «سينما الدنيا» الذي كتبته إثر نجاتي من حادث موت محقّق خلال تصوير فيلم «الليل»، وهو باعتراف من قرأه نصّ أدبي من طراز خاص، ومغامرة سردية تتناوبها حميمية السيرة الذاتية، والهمّ العام، لكن هذا السيناريو تعثّر كفيلم لأسباب كثيرة لا أريد أن أوردها هنا، وهو مشروع جاهز للنشر.
■ «المنام» مفردة أساسية في معجمك الأدبي والبصري، وقد أنجزت كتاباً بهذا العنوان، ما هي ظروف كتابته؟
أتعامل مع اليوميات
عموماً كمسوّدات تحتاج إلى صياغة أدبية

ـــ لطالما كان الروائي في موقع من يكتب حكايات الآخرين بما فيها الراوي نفسه، ولكن ما ذا لو كان الروائي مروياً من الآخر؟ هذا ما فكرت به أثناء لحظة الكتابة. الآخرون هنا، هم بشر المخيم الفلسطيني في لبنان الذين حقّقت عن أحلامهم فيلماً تسجيلياً. هكذا أعدت صوغ هذه المنامات روائياً، كنت فيه أنا المروي لهم، ولست الراوي، وبمعنى آخر أن تقوم بتشريح محسوس لعالم حلمي، تكون صانعاً له تارةً، وضحية له طوراً، بحيث تجعل من نفسك عبر الأدب شخصية روائية. وسيصدر «المنام» مجدّداً، باللغة الانكليزية قريباً، ضمن منشورات الجامعة الأميركية في القاهرة.

■ خلال تحريرك محتويات دفاترك، ما الذي طرأ على «الورقي» لحظة انتقاله إلى شاشة الكمبيوتر، لجهة آلية التفكير؟
ـــ المفارقة أنني خلال مراجعتي لمسوّدات يومياتي، لم أجد في دفاتري أي عيوب تقنيّة تتعلّق بالكتابة الورقية، مثل الشطب، أو التعليقات الجانبية على الهوامش، أو الخربشات، أو بقع الحبر. كانت نظيفة تماماً، قبل أن أمزّقها لحظة الانتهاء من تنضيد محتوياتها على الكمبيوتر. ربما تكون الكتابة على الكمبيوتر، بالنسبة لي، أكثر بطئاً، لكنها أتاحت أمامي فسحة أكبر في إنجاز نص نقيّ، بمعنى أنه خالٍ من شوائب الكتابة، فهناك فرق بين الدفق العفوي على الورق، والكتابة المدروسة على الكمبيوتر لجهة تأمل العبارة، فهي تتيح الإلغاء والمحو والاستبدال، أو نقل فقرة إلى مكان آخر من الصفحة بسهولة ويسر. لا شك في أن آلية التفكير لديّ اختلفت في تدوين الفكرة وصقلها على الشاشة مباشرةً. قبلاً، كنت أخاف ضياع دفاتري، بسبب المخاطر المختلفة التي نعيشها اليوم، ومصادفات الموت المجاني، لكنني الآن، أحس بالطمأنينة لجهة الحفاظ على هذا «الميراث»، فكل ما لدي بات مخزّناً على «فلاش ميموري»، وصار بإمكاني التوصية به في لحظة الموت.

■ لديك مخطوطة رواية حبّ لم تكملها، هل خشيت من اعترافات شخصيّة قد تقودك إلى مناطق محرّمة؟
ـــ لا على الإطلاق، لكنني كطبع شخصي، أتحفّظ على نشر ما أكتب مباشرة. أدعه جانباً كي يختمر، ربما لسنوات، إلى أن أصل إلى قناعة تامة بضرورة تحريره من الأدراج، بضغط الإلحاح الوجداني في المقام الأول لهذه المسودة أو تلك. بالنسبة لمخطوطة الرواية التي أشرت إليها، لم تكسر قشرة بيضتها إلى الآن، ولا أعلم متى أجد الفرصة والوقت والحاجة إلى إعادة النظر فيها، فالأمر يخضع إلى الشعور بالأمان، ثم بقناعتي بأن هذه الرواية ستتجاوز سردياً كل ما أنجزته قبلاً، من كتب وأفلام، فأنا - في نهاية المطاف - لست كاتباً محترفاً، اخترت أن أبقى هاوياً، ذلك أن المسألة الإبداعية، بالنسبة لي، هي تعبير عن احتياج داخلي قوي لقضية ما، تلحّ عليّ، وتمتلك دلالاتها الراهنة والحارّة، سواء واقعياً أم تخييلياً. في ما كتبته من تلك الرواية التي لم تكتمل، أتذكّر مشهد حبّ يحدث فوق حشيش أخضر على كامل رخام غرفة معتمة وكتيمة، وهو ترجيع لمشهد واقعي لأول لقاء بين عاشقين، إذ كانت هي تتمدّد فوق حشيش أخضر في حديقة، لحظة عثوري عليها.
■ كيف استقبلت أعمالك نقديّاً، بوصفك كاتباً وليس سينمائياً؟
ـــ لا أملك معرفة كاملة عن استقبال كتبي نقدياً، ما أذكره أن صنع الله إبراهيم احتفى بروايتي «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» إثر صدورها بدراسة طويلة نُشرت على حلقتين في ملحق «السفير الثقافي»، كما أثارت هذه الرواية قبل نشرها اهتماماً جيداً، ففي حين لم يرحب بها حنا مينه، اعتبرها سعيد حورانية «سيمفونية شوبرت الناقصة»، وانتقدني سعد الله ونوس في تقصيري بأن أجعل من القنيطرة ملحمة كما عن سادوم وعامورة. أما فيما يخص كتبي الأخرى والتي نشرت معظم فصولها في الصحف والمجلات فقد حظيت بإشارات إيجابية من نقاد سينمائيين مرموقين مثل سمير فريد وكمال رمزي ومحمد رضا، أما محمد سويد فقد أشار في كتاباته عن أفلامي إلى كتابتي الأدبية. عموماً، فإن كتابة اليوميات ومفكرات الأفلام لا تلقى الاهتمام الذي تستحقه في الثقافة العربية، لكنني لن أغفل أن ترجمة كتاب «المنام» للإنكليزية ونشره، يدل على اهتمام أدبي أيضاً.

■ ما هي المراحل التي مرّت بها مكتبتك الشخصيّة، كيف أسستها، وهل تتلف كتباً من محتوياتها، وهل تخضعها إلى «تعزيل» دوري، على غرار ما يفعله آخرون؟
ـــ تخليت عن مكتبتي الأولى، بعد ذهابي إلى موسكو للدراسة. المكتبة التي صمّمت رفوفها بنفسي، وذلك بإهدائها إلى صديقي فيصل درّاج، لأنني لم أكن متيقناً أين سينتهي بي الحال بعد إنهاء دراستي للسينما، إلى النجاح أم الفشل أم الانتحار. وقد كانت هذه المكتبة خليطاً من الكتب الأدبية والسياسية. وسوف أتخلى عن مكتبتي الثانية لأولادي، حيث غادرت حياتي القديمة، وقرّرت العيش على نحوٍ آخر، إثر حادثة الموت التي تعرّضت لها خلال تصوير فيلم «الليل»، رغم أنها مكتبة نوعية وغنيّة بمحتوياتها، فهي حصيلة 20 عاماً من اقتناء الكتب. وأذكر أنني تخليت عن الكتب الروسيّة التي أحضرتها من موسكو، بالإضافة إلى الكاتالوجات الفنية النفيسة، والألبومات المصوّرة، وأعمال لكتّاب روس كبار، بوضعها على سور مبنى الخبراء الروس المتاخم لبيتي القديم، لإحساسي بأنني لا أريد أن أحملها على ظهري إلى الأبد. في حياتي الجديدة، أحدثت وزوجتي مكتبة ثالثة تمثّل النسخة الأخيرة من اهتماماتنا، وهي غنية بملفاتها وكتبها وأفلامها، كما لن أنسى فضيلة شبكة الانترنت عليّ التي أتاحت لي تحميل عشرات الكتب مجاناً، بما يعادل مكتبة موازية في حقول إبداعية مختلفة.

■ ما هي أكثر الكتب قرباً إلى نفسك؟
ـــ «المخطوط القرمزي – مذكرات أبي عبد الله الصغير» لآنطونيو غالا، و«النحت في الزمن» للسينمائي الروسي أندريه تاركوفسكي، ولعلي لا أريد أن أغفل في هذه الأيام عن الكثير من الروايات السورية التي تمنع من الدخول.

■ ماذا تقرأ الآن؟
ـــ قبيل انغماسي قبل أشهر، في كتابة مشروع سينمائي جديد، وضمن سعيي للاطلاع على الرواية السورية الجديدة، قرأت رواية « غبار الطلع « لعماد شيحة. وعلى طاولتي الآن، لقراءة قادمة، كتاب بعنوان طريف «طبز وتشعيل مقام كنا» لسهيل شدّود، وهو عمل أدبي خاص يتقاطع مع نكهة ما أكتبه أحياناً، وقد قرأته على عجل، لكني أود إعادة قراءته.