يُعد الألماني أكسل هونيث (1949) أحد أهم المنظرين لمفهوم "الاعتراف" في الفلسفة الغربية المعاصرة. ينتمي «فيلسوف الاعتراف» إلى الجيل الثالث من «مدرسة فرانكفورت» النقدية التي كان من أبرز أعلامها في الجيل الأول تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر وهربرت ماركوز، ومثّلها في الجيل الثاني يورغن هابرماس صاحب «المعرفة والمصلحة».
في كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، أطلق الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل الإطار النظري لـــ «الاعتراف»، ناظراً إليه من محور الصراع بين العبد والسيد (أي الصراع بين الذوات) الذي هو نتيجة لرغبة الإنسان في نزع الاعتراف به من طرف الآخر. شكل كتاب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور «سيرة الاعتراف: ثلاث دراسات»، والمقالة المطولة للفيلسوف الكندي تشارلز تايلور «سياسات الاعتراف»، رافداً فلسفياً مهماً في علاقات الاعتراف الاجتماعية والسياسية.
ترتكز أعمال أكسيل هونيث إلى الفلسفة السياسية والأخلاقية الهادفة إلى تكريس الاعتراف المتبادل بأشكال الحياة الإنسانية. في كتابه «الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية» الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، بيروت) بعدما صدر بالألمانية عام 1992، يناقش هونيث الأسس والمنظورات الفلسفية للاعتراف بدءاً من هيغل وصولاً إلى الثلاثي كارل ماركس وجورج سوريل وجان بول سارتر، محللاً البنى السياسية والأخلاقية والذاتية للصراع من أجل الاعتراف وأشكال الانكسارات (الجور، سلب الحق، الإهانة) ومدى انعكاسها على الهوية الفردية والجمعية.
يندرج الكتاب في خانة الفلسفة الاجتماعية. تميز بقدرته الفذة على استنهاض الأفكار وتوليدها، ووصل أحياناً إلى درجات عالية من الصعوبة بالنسبة لغير المتخصصين في هذا الحقل المعرفي الواسع والمعقد. يسترجع صاحب "فكرة الاشتراكية" مقاربة هيغل الجديدة حول «التذاوت» متطرقاً إلى مقاربته حول الرابط الاجتماعي بين الأفراد. رأى أحد أهم مؤسسي الفلسفة الألمانية المثالية أنّ وعي الكائن البشري بذاته يتوقف على تجربة الاعتراف به اجتماعياً. واعتبر أن المجتمع المتصالح «لا يمكن أن يدرك إلّا بوصفه جماعة حققت الاندماج الأخلاقي بين المواطنين الأحرار كافة». تأمل هيغل في علاقات «الاعتراف» اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، وخلص إلى أنّ «الذات، ما إن تُدرك ذاتها ذاتياً، يعترف الآخر بها في بعض قدراتها أو صفاتها، وأن تكون متصالحة معه، هي ذات تكتشف على الدوام مظاهر هويتها الخاصة». أعاد هيغل تأويل أنموذج حرب الكل ضد الكل، الذي صاغه هوبس في أطروحته الشهيرة «اللفياثان» (Leviathan)، منطلقاً في عرضه الفلسفي من الأشكال الأولية لاعتراف الناس بعضهم بعضاً؛ وهذا ما يشير إليه في صيغة "الحياة الأخلاقية الطبيعية" أو "المناقبية الطبيعية".
لا تقتصر أفكار هيغل التي درسها هونيث على هذا المضمار النقدي، فهو يؤسس لــــ "الفعل التذاوتي" من زاويتين: الإمكانية التربوية الأخلاقية، العملية التي ينسبها إلى النزاعات الاجتماعية؛ وسعي الذوات للحصول على استقلال ذاتي، وإن اتخذت "إجراء حول تبعيتها المتبادلة". يلاحظ المؤلف أن هيغل في تحليله لأنساق الاعتراف وضعها ضمن مراحل متتابعة: التفت «أولاً إلى علاقة الذات الفردية مع نفسها، ثم إلى العلاقات الممأسسة للذوات فيما بينها، ثم أخيراً إلى العلاقات الفكرية للذوات المندمجة اجتماعياً مع العالم في كليته". تتجلى هذه الأنساق في أنماط عدة سواء في العمل الفردي أو تبادل الاعتراف مع الجماعة والدولة. ولعل أبرز تجليات الاعتراف الفردي التبادلي– كما طورها هيغل- تتمثل في الحب، حيث يقدم تحليلاً فلسفياً لما يطلق عليه "معرفة عارفة"، قاصداً بذلك أنه قبل أن يتسنى للزوجين تأمل حبهما عبر وسيط خارجي، عليهما أيضاً التقدم خطوة أخرى في صيرورة التموضع المشترك: إذ فقط وبعد ولادة فردٍ من ذريتهما، يصبح الحب "معرفة عارفة".
ينتمي إلى الجيل الثالث من «مدرسة فرانكفورت» النقدية

يشرح صاحب "التشيؤ: دراسة عن نظرية الاعتراف" خلاصات الفيلسوف وعالِم الاجتماع الأميركي جورج هربرت ميد، أشهر ممثلي النظرية التفاعلية الرمزية، وأهم منظِّر لفكرة أن الذوات البشرية تدين في هويتها لتجربة الاعتراف المتبادل. ميِّز ميد رائد علم النفس الاجتماعي بين مفهومي "الأنا المفعول" و"الأنا الفاعل"، مشيراً إلى أنه "يمكن للذات أن تعي نفسها إلاّ بقدر ما تتعلم كيفية اعتبار فعلها من منظور شخص آخر يتمثله رمزياً" بمعنى أدق – وكما يفسر هونيث – إن مقولة "الأنا" المنفعلة بالنسبة إلى ميد كناية عن صورة معرفية تكونها الذات عن نفسها انطلاقاً من اللحظة التي تتعلم فيها كيف تدرك نفسها من وجهة نظر شخص آخر".
يحيلنا هونيث على نماذج الاعتراف التذاوتي: الحب، القانون، والتضامن لدى هيغل وميد. يشكل الحب عند هيغل الدرجة الأولى من الاعتراف المتبادل: «ترتبط هذه العلاقة (...) بالوجود الجسدي لكائنات عينية" حيث "يُفهم الحب بموجبها" وفقاً للصيغة الهيغلية بـــ "كون الذات نفسها في غريب". يستند هونيث في تحليله الفلسفي للحب، بوصفه "اعترافاً تذاوتياً"، إلى الخلاصات التجريبية التي قدمها علم النفس الاجتماعي لا سيما تفاعل الطفل الرضيع مع الأم الذي أطلق عليه البحث التجريبي عبارة "التذاوت الأولي". وهو ينتهي إلى "التخلي المتدرج عن التبني" من جانب الأم بغية تحقيق أشكال الاستقلال والاعتراف والثقة بالذات. فيما يخص القانون، يلفت هونيث إلى أن هيغل وميد أبرزا بنية "الذوات الحقوقية" انطلاقاً من "كوننا لا نستطيع أن نفهم أنفسنا أصحاب حقوق، إلا إذا امتلكنا في الآن نفسه معرفة بما يتوجب علينا من واجبات معيارية نقوم بها تجاه الغير". أي علينا –كما يوضح هونيث- أن نتقبل وجهة النظر المعيارية "للغير المعمم" الذي يعلمنا الاعتراف بأعضاء الجماعة الآخرين بوصفهم أصحاب حقوق، حتى نعتبر أنفسنا «أشخاصاً قانونيين". يتخذ المعيار الثالث للاعتراف التذاوتي: التضامن عند هيغل مصطلح "المناقبية". أما ميد، فيدخله في سياق تقسيم العمل التعاوني بعد بلوغه مرحلة المأسسة.
يحلّل هونيث الأشكال المناهضة للصراع من أجل الاعتراف التي تتمثل في ثلاثة أطر قهرية: الجور، سلب الحق، والإهانة. يتساءل: كيف يمكن لتجربة الذل أن تجتاح حياة الذوات الإنسانية العاطفية إلى درجة الدفع بها للمقاومة والمواجهة الاجتماعية، أي بتعبير آخر لدفعها للصراع من أجل الاعتراف؟ يضعنا هونيث أمام تحليلات شديدة التعقيد، فهو يدرس أولاً أنماط الذل كضرر فيزيائي يجرح على الدوام الثقة التي اكتسبتها الذات من تجربة الحب، ويعالج، ثانياً، الاحترام الأخلاقي للذات، حين تتعرض للذل إثر خسارتها لبعض الحقوق داخل المجتمع نتيجة الإقصاء الاجتماعي المتعمد. وأخيراً، يلفت إلى الحكم السلبي على القيمة الاجتماعية لبعض الأفراد أو بعض المجموعات. هذه الأنماط الثلاثة من الاذلال بامكانها – حسب هونيث- خلق مشاعر دفاعية وتحفيزية تؤدي غالباً إلى ظهور أشكالٍ عدة للصراع من أجل الاعتراف بغية كسب الحقوق وجبر الضرر.
يجادل هونيث المقاربات النظرية لـ "مفهوم الاعتراف التذاوتي" كما صاغها ماركس (صراع الطبقات؛ تحقيق الذات عبر العمل) وسوريل ( المكافحة ضد النزعات النفعية؛ العمل الاجتماعي) وسارتر (المسألة اليهودية؛ والحركة الاستعمارية) في أعمالهم الفلسفية. ويسجل على الفلاسفة الثلاثة أن خلاصاتهم حول الاعتراف ظلت غامضة و"لم يستطيعوا الارتقاء بها إلى مستوى تفسير أعلى".
"مع هونيث أصبح مفهوم الاعتراف من المفاهيم الكبرى في الفكر الفلسفي المعاصر"، كما يقول الباحث الجزائري، الزواوي بغورة. يشكل "الصراع من أجل الاعتراف..." أهمية كبيرة للمكتبة العربية، وهو يفيد في المجال الاجتماعي والسياسي والثقافي. ومن الضرورة أن تتلقفه الدوائر الأكاديمية والعلمية في العالم العربي المعنية بسياسات الاعتراف والحقوق المدنية والسياسية.