جودت فخر الدين


في عام 1979 صدرَ ديواني الأول عن «دار الآداب» في بيروت. صدرَ بهذا العنوان "أُقَصِّرُ عن حبِّكِ". وكنتُ قد اخترْتُ له عنواناً آخَرَ، هو «أحزانٌ أولى». ولكنّ الناشر الدكتور سهيل إدريس اختارَ لي، أي للديوان، عنوانَ القصيدة الثانية فيه، وأقنعني به، مفضِّلاً أنْ نفتتحَ بالحبّ بدلاً من الحزن.
"سروةُ الحزن" هو عنوان القصيدة الأولى في كتابي الأول، الذي ضمَّ خمس عشرة قصيدة. هل كنتُ حزيناً حقّاً؟ نعم، كان الحزنُ هو الحالةُ التي تطْغى على غيرها من الحالات في قصائدي الأولى. في تلك التي ضمّها الديوان، وكذلك في التي سبقتْهُ من قصائدَ لم أنشرْها.
كنتُ في السادسة والعشرين. وأجواءُ الحرب التي اندلعت في لبنان منذ عام 1975، وراحتْ تتنوّعُ وتتشعّب، كانت تفرضُ نفسَها على الكتابات الشعرية في تلك المرحلة. كانت إقامتي موزَّعةً بين بيروت وقريتي الجنوبية. فبعد سنتيْن، أي في عام 1977، كنتُ قد أنهيتُ دراستي في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، وحصلْتُ على شهادة الكفاءة في الفيزياء، وانتقلْتُ إلى التدريس في إحدى الثانويات في بلدة ٍقريبة ٍمن قريتي الواقعة في المنطقة الحدودية مع فلسطين. هكذا توزعتْ إقامتي بين بيروت والجنوب حتى عام 1984، إذ انتقلْتُ إلى التعليم في الجامعة بعد حصولي على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة القديس يوسف.
في ديواني الأوّل، تجلّتْ مكوِّناتي الثقافية الأساسية. تلك التي اكتسبتُها من نشأتي في أسرة معنيَّةٍ بالشعر. أبي وجدّي شاعران. وأبي كان له أبعد الأثر في تنمية استعدادي للشعر وشغفي باللغة. في طفولتي وصباي، اللذيْن عشتُهما في القرية، كنتُ أشعرُ بأنني أحيا في عالم ٍلغويّ. كنتُ أرى كلِّ شيءٍ من خلال اللغة وحبّي للّغة. حتى الطبيعة الريفية، التي تفتّحتْ أحلامي وتصوّراتي في أحضانها، لم تكنْ سوى جزء من عالمي اللغويّ. لقد شهدْتُ في طفولتي وصباي ذلك اللقاء الساحر الحالم بين اللغة والطبيعة.
في بدايات إقبالي على الشعر، كنتُ أجدُني مسحوراً حيال العبارات الصعبة أو الغريبة التي أسمعُها أو أقرؤها في هذه القصيدة أو تلك في دواوين المتنبي وأبي فراس وأبي نواس. ذكرْتُ هذه الدواوين لأنني أتذكّرُ، على نحْو خاص، وجودَها في مكتبة أبي إلى جانب المعلّقات بشرح الزّوزني. وعندما بدأت محاولاتي في كتابة الشعر، في الثالثة عشرة تقريباً، كنتُ مدفوعاً برغبتي في امتلاك اللغة والتصرُّف بها. بدا لي أنّ الشعر ليس سوى حبِّ اللغة، وأنّ تأليفه ليس إلا تعبيراً عن معرفة ٍبها، أو وقوف ٍعلى بعض أسرارها.
في منظوماتي الأولى، كنتُ أسعى إلى إثبات مقدرتي اللغوية، وإلى إغناء تمرُّسي باستخدام الأوزان. فكان يحلو لي من جهة أن أتمثّلَ بالقصائد العربية القديمة، ومن جهة ثانية ألّا أتركَ وزناً إلّا وأنظم عليه، وأن أنوِّعَ - قدْرَ إمكاني – في استخدام القوافي، فجرّبتُ الحروف كلَّها تقريباً، متّخذاً منها حروفَ رويّ، حتى تحصّلَ لي عددٌ كبيرٌ من المنظومات، رحْتُ أحتفظُ بها في دفاترَ شبيهةٍ بتلك التي كنّا نستعملُها لفروضنا المدرسية.
في الثامنة عشرة، التحقتُ بالجامعة لدراسة الفيزياء. وهذا النوع من الدراسة لم يصرفْني عن الاهتمام بالشعر وكتابته. وكنتُ في هذا الوقت قد بدأتُ أتعرّفُ بالشعر الحديث وأقرأ نصوصاً منه، وأوّلها على ما أذكر كان لبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور. في هذه الفترة، كنتُ أشعرُ بأنني أدخلُ مرحلةً جديدةً من حياتي، في جميع المجالات. ورحتُ أشعرُ خصوصاً بأن الشعرَ ليس نحْواً وأوزاناً فقط، وإنما هو أكثرُ تركيباً، وأشدُّ حيويةً واضطراباً.
في بداياتي كنتُ أسعى إلى إثبات مقدرتي اللغوية، وإلى إغناء تمرُّسي باستخدام الأوزان.

في عام 1974، نشرْتُ أوّلَ قصيدةٍ حديثةٍ لي في مجلة «الآداب» البيروتية.
وبعد ذلك، دأبتُ على النشر في هذه المجلة وفي غيرها من الصحف والمجلات المختلفة. لم أفرِّطْ في كتاباتي الحديثة بما كنتُ أعتدُّ به من رصيد لغويّ، ومن رصيد عروضيّ. كنتُ مقتنعاً، وما زلتُ على اقتناعي، بأنّ معرفةً كافيةً باللغة والعروض هي أساسٌ ضروريٌّ - ولكنه غير كافٍ - لكتابة الشعر.
قصائدي في ديواني الأوّل موزونة. تنتمي إلى ما شاعت تسميتُهُ بـ «قصيدة التفعيلة». وكذلك هي القصائد في مجموعاتي اللاحقة. أشير هنا إلى أنني كتبتُ قصيدةَ نثرٍ واحدة. كان ذلك قبل سنتيْن. وعنوانها «قصيدةٌ.. أو أجمل»، وهي ستكون ضمن ديواني الجديد «حديقة الستّين»، الذي سيصدر قريباً مع مجلة «دبي الثقافية». ربما يكون من الطريف أن تحتوي كُتُبي الشعرية التي باتتْ تزيدُ على العشْرة قصيدةَ نثر واحدة. كان ذلك في منتهى العفوية، أي دون تدبّرٍ أو افتعال أو انعطاف في الخيارات أو المفاهيم. بل ربما يدلُّ هذا الأمر على رؤيتي إلى الشعر وتأليفه، رؤيةً تخلو من التعصُّب للوزن أو ضدّه، بل من كلِّ تعصُّب.
رأيي أنّ الأوزان والقوافي ليست قيوداً كما شاع في التنظير للحداثة الشعرية المعاصرة، وإنما النظامُ العروضيُّ - لمن يُحْسِنُ استعمالَهُ بطريقته الخاصة - طاقةٌ لتسديد المعاني وتهذيب الصِّيَغ. ورأيي أيضاً أنّ الشعر يمكنُ أنْ يتحقَّقَ خارجَ هذا النظام أو بدونه. ولهذا، لا أجِدُ فائدةً في السجال بين دعاة الوزن ودعاة التخلي عنه. كما لا أعطي أهميةً للتصنيفات الشعرية على أنواعها. كأنْ تكون القصيدةُ عموديةً أو قصيدةَ تفعيلة أو قصيدةَ نثر. أو كأنْ يكون الشعراءُ روّاداً أو شعراء سبعينياتٍ أو تسعينياتٍ... أو غير ذلك.
في كتابي الأول، عبّرْتُ عن احتفائي بتراثنا الشعري. وانطلاقاً منه، ومن كتابي الثاني «أوهام ريفية» الذي صدرَ بعد الأوّل بسنةٍ واحدة، رحتُ أشُقُّ طريقي، مطوِّراً لغتي الشعرية على نحْوٍ مستمرّ. وقد حرصتُ دائماً على أن يكون للقصيدة نظامُها الخاص، أو إيقاعُها الخاص. وكان لي - في ما أظنّ - أن أستمدَّ من تراثنا اللغويّ والبلاغيّ والعروضيّ ما يساعدُ، ولا يُعَرْقِل، في إنجاز مشروع شعريّ جديد.
في عام 2006، صدرَ المجلّدُ الأوّلُ من أعمالي الشعرية، عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، واحتوى على مجموعاتي السبع الأولى. وكان لي، وأنا أُعِدُّ هذه الأعمال للطبع، أن أعيدَ النظرَ في ما كتبتُهُ خلال أكثر من ثلاثين عاماً، وخصوصاً في كتابي الأوّل. لم أغيِّرْ، ولم أنقِّحْ كثيراً. وإنما اكتفيْتُ ببعض الحذْف. حذفْتُ بعض الصفحات من كتابي الأوّل.