شهدت العقود الأخيرة تنامياً ملحوظاً في الدراسات الإسماعيلية، تمثلت في الترجمات والمؤلفات المختصة. وبرغم هذا النشاط الثقافي، ما زالت المكتبة العربية تفتقر إلى ببليوغرافيا وافية خارج الإطار الكلاسيكي الذي يغلب عليه التأصيل المذهبي للفرق والملل والنحل في الإسلام. يُعتبر الكاتب السوري عارف تامر (1921ـــ 1998) من بين أبرز الباحثين العرب الذين أرخوا ودرسوا تاريخ الإسماعيليين. نشر كتباً عدة من بينها «موسوعة تاريخ الإسماعيلية». أولت الأدبيات الاستشراقية اهتماماً بتاريخ هذه الطائفة، وتُعد أبحاث المستشرق الروسي فلاديمير إيفانوف (1886-1970) أساس الدراسات الإسماعيلية الحديثة، خصوصاً كتابه « (Ismaili tradition concerning the rise of the Fatimids -1942). إلى ذلك، يشكل «معهد الدراسات الإسماعيلية» في لندن معلماً ثقافياً بارزاً في دراسة وحفظ الإرث الإسماعيلي، السياسي والديني والثقافي، وأصدر مجموعة مهمة من الكتب، لا سيما تلك التي نشرها فرهارد دفتري صاحب «الإسماعيليون: تاريخهم وعقائدهم».
في كتابه الجديد «صراع البقاء: الاسماعيليون في العصور الوسطى» (ترجمة سيف الدين القصير ــ دار الساقي ـــ معهد الدراسات الإسماعيلية)، يدرس أستاذ الدراسات الإسلامية في «جامعة تورونتو» (كندا) شفيق فيراني تاريخ الإسماعيلية، استناداً إلى استمرارية الطائفة وحفاظها على وجودها بعد الأحداث المرعبة لاقتحام المغول في القرن الثالث عشر لقلب العالم الإسلامي، بغية القضاء على الدولة الإسماعيلية الصغيرة المتمركزة في «قلعة ألموت» والخلافة السنية.
يبين الكاتب والباحث الكندي كيفية تمكن الإسماعيليين من تثبيت بقائهم مع ما أصابهم من اضطهاد كارثي دفعهم إلى حماية تراثهم الروحي والاجتماعي، علماً أن المكتبات الإسماعيلية تعرضت لتدمير ممنهج ضمن فترات متباعدة. ويسجل للمغول إحراق «مكتبة ألموت» التي ذاع صيتها إبان الدولة الإسماعيلية.
لم يطلق الإسماعيليون على معتقدهم تسمية «الإسماعيلية»، بل إن هذا الاسم أطلقه عليهم كتّاب الفرق الأوائل، لا سيما النوبختي والقمّي. أشاروا إلى أنفسهم ببساطة على أنهم «دين الحق» أو «دعوة الحق». يشير فيراني إلى أن المؤلف الإسماعيلي في القرن الخامس عشر بوإسحق قوهستاني ينص بكل بساطة على أنّ «أهل الحق هم أهل الدعوة، وحافظت هذه التسميات على شيوعها حتى عندما انتشرت في جنوب آسيا حيث صارت تعرف هناك باسم «طريق الحق» (ساتبانث)».
عمل المؤلف على استقصاء الغموض الذي اعترى وجود الإسماعيليين بدءاً من الغزوات المغولية واستمراراً حتى مطلع الثورة الصفوية، أي من منتصف القرن الثالث عشر وحتى نهاية القرن الخامس عشر. وغطى تحليل الأفكار والمعتقدات مجالاً واسعاً استمده من مصادر توزعت على ألفية من تاريخ الإسماعيليين بهدف شرح وإلقاء الضوء على مبادئ ومعتقدات بعينها عبرت عنها أعمال هذه الحقبة الأدبية.
تاريخياً، لم يرتبط حراك الطائفة الإسماعيلية وبقاؤها بالمقاومة المتقدة فحسب، بل شكلت ثلاث جوانب دينية وفكرية سنداً لبقاء لها: التقية، والدعوة، والبعد المتعلق بعقيدة الخلاص أو النجاة للإمامة.
يكشف الكتاب عن تلاحم بين استمرارية البقاء والروحية الدينية للطائفة الإسماعيلية. واعتمد المؤلف على مجموعة من المصادر لفهم الفترة السوداء التي مرّ بها الإسماعيليون منذ سقوط قلاعهم وحتى ظهور أئمتهم في أنجودان، وقد تسنّت للجماعة المتناثرة استعادة المركزية الروحية من خلالهم.
الكوارث والجروح التاريخية أحدثت تحولاً عقدياً لدى هذه الطائفة

إن الرواية الأولى التي أعقبت سقوط المركز الإسماعيلي في ألموت مباشرة، جاءت من عطا ملك الجويني في كتابه «تاريخ فاتح العالم». كان الجويني شاهد عيان وموظفاً عند المغول، ما جعله لاعباً أساسياً في الأحداث، وخصّص الجزء الثالث من كتابه لتاريخ الإسماعيليين بعد هذه الفترة المظلمة. يفند الكتاب الفكرة الشائعة عند المؤرخين الفرس والمؤلفين الغربيين ممن اعتقدوا أن الإسماعيليين قد بادوا وهلكوا نتيجة مذابح المغول، بسبب التضليل التاريخي الذي مارسه الجويني رجل بلاط هولاكو، إذ استقى انتقائياً من كتب وجدها لكتابة كتابه الخاص قبل إيداع مصادره وبقية محتويات المكتبة لألسنة اللهب، كما يشير المؤلف.
أدت الفتوحات الشرسة للمغول إلى كبوة الجماعة الإسماعيلية واعتزالها بالصمت. واستطاعت عبر الأزمنة الطويلة تكريس نشاطها المتواصل، فلم تضع الكوارث التي تعرضت لها حداً لحيويتها حتى في مراكز القوة الإسماعيلية السابقة. ويبرهن الأدب الإسماعيلي في نواحي جنوب قزوين على استمرارية الطائفة وأنشطتها الدينية والدعوية، والأهم أنّ هذه المصادر التاريخية «العرضية» ــ كما يصنفها فيراني ـــ كشفت عن الارتباطات المتواصلة مع ألموت.
أحدثت الكوارث والجروح التاريخية تحولاً عقدياً لدى الطائفة الإسماعيلية، تبدى في اللجوء إلى الكتمان. لم تكن استراتيجية البقاء هذه نتاج الغزو المغولي فقط. دفع القلق في فترات سابقة الإسماعيليين إلى تطوير ممارسة التقية واتخاذها طريقة فطرية للحفاظ على ذات الجماعة. برزت تجليات التقية في ممارسات دينية أخرى، بحيث اتخذ مفهوم الستر، أي ستر الإمام، بعداً اضافياً لا سيما بعد فترة ألموت.
أدت الأحداث الدرامية إلى تخلي الكثيرين من الإسماعيليين الفرس عن مذهبهم خوفاً على حياتهم، وبعضهم بقي على معتقداته الإيمانية وتظاهر بالتسنن، وبينت براهين أخرى على تبنيهم لغطاء الشيعية الاثني عشرية، إلى جانب اتخاذ الصوفية غطاء لتفادي اضطهاد السلطات كما أكد المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903_1978) الذي أوضح الارتباط الإسماعيلي – الصوفي في أعقاب الغزو المغولي.
وبعيداً من الإسماعيليين في بلاد فارس خلال الفترة المدروسة، بدت حالة الإسماعيليين السوريين مختلفة. يلاحظ المؤلف «أنهم لم يمارسوا التقية بالقدر ذاته من التنبه والتيقظ، بل إن بعض المراقبين العرضيين كابن بطوطة، أحد أبرز رحالة العالم في القرن الرابع عشر، كانوا قادرين على تمييزهم بسهولة كإسماعيليين. وثمة أسباب عدة ممكنة لهذه الحالة (...) تمكّن الإسماعيليون السوريون من تفادي الخراب الذي أحدثه المغول، إذ ربما نجوا بفضل انسحاب هولاكو سنة 658 هــــ 1260 م عند سماعه بوفاة الخام الأعظم مونغكه. ثم قام السلطان بيبرس بمد سلطة المماليك في كامل المنطقة، محبطاً بذلك الزحف المغولي (...) وخلافاً للمغول، لم يحاول المماليك إبادة أفراد الجماعة، بل إنهم استغلوا خدمات الفدائيين لتحقيق أهدافهم ضد أعدائهم».
ليس الكتاب تدويناً لعقائد الإسماعيلية، لكنه يعرف القارئ إلى بعض المعتقدات الإيمانية للجماعة خصوصاً حين يشير إلى المفهوم الإسماعيلي للإمام المستودع والإمام المستقر وإلى المراتب السبعة لحدود الدين (المستحيب، المأذون الأصغر، المأذون الأكبر، الداعي، الحجة الأصغر، الحجة الأكبر: الباب الأقدس، الإمام).
تمتع الاسماعيليون بمرونة تاريخية وقدرة على التأقلم ساعدتهم على الاستمرار والبقاء وتطوير تراثهم الديني والثقافي والأدبي والتعليمي. يتوزعون اليوم على 25 بلداً من بينها الصين وجنوب آسيا وشرق أفريقيا وكندا حيث يصل عددهم إلى نحو 70 ألفاً.
يتناول الكتاب فترة مفصلية من تاريخ الطائفة الإسماعيلية. يشكل مقدّمة لقراءة ذاكرة الأقليات المسلمة خارج علم البدع (hérésiographie) عبر النظر إليها كجزء أصيل من حركية الإسلام وثرائه الديني والروحي.