تكاد تكون كلّ قصة قصيرة تُنشَر وكأنها مناسبة لإعادة الجدل، المتواصل أساساً، بين كتّاب الرواية وكتاب القصة، أو بالأحرى بين عالمَيْ القصة والرواية، بخاصة حين أصبحت القصة القصيرة عند معظم الكتّاب، حتى عند من ارتبط اسمه بها، بمثابة مرحلة تجريبيّة للرواية، أو تمريناً لها، أو استراحة بين روايتين. نادرون هم الكتّاب الذين كرّسوا أنفسهم للقصة وحدها. يصح هذا الكلام على المشهد الأدبيّ في العالم كلّه. الفارق هو أنّ المشهد العربيّ يتعامل مع كاتب القصة ككاتبٍ هاوٍ، أو كاتبٍ من الدرجة الثانية على الأقل، لن ينضج أو يرتقي دون كتابة رواية. ولن يكون تعداد مبدعي القصة القصيرة كافياً لأنّ الفكرة قد ترسّخت وانتشرت كالطاعون في الأوساط الأدبيّة. ويمكن الملاحظة أيضاً أنّ بعض الروائيّين الذين كتبوا القصة اختاروا قصةً بعينها، ثم أعادوا نشرها لاحقاً لأسباب متعدّدة قد تكون مُقنعةً أحياناً لكونها أطول من باقي قصص المجموعة الأصليّة أو أكثر تميّزاً أو أنّها ببساطة لم تكن قصة قصيرةً أساساً، بل نوفيلا أو حتى رواية نُشرت لسبب من الأسباب مع قصص أخرى في كتاب واحد، كما في «معراج الموت» لممدوح عزّام، و«آلام السيد معروف» لغائب طعمة فرمان، و«رائحة الصابون» لالياس خوري. فيعود حينها الجدل مرةً أخرى ولكن لسبب مختلف: إعادة قراءة العمل ذاته تحت ضوءين؛ ضوء القصة القصيرة حيث ليس ثمة قصة متوسّطة الجودة، فالقصة إما تكون بارعةً ومتقنة أو مخفقة؛ وضوء الرواية التي تحتمل إخفاقاً جزئياً أو تفصيلاً ناشذاً.
تزداد جرعة القسوة مع انتقال المشاهد إلى الحرب الحقيقيّة بدمائها وضحاياها

ضمن هذين الضوءين يمكن قراءة مجموعة رامي طويل «قبل أن تبرد القهوة» (دار «الساقي»). لا تسلّم المجموعة نفسها لقارئها كلياً من قراءة واحدة. في القراءة الأولى سيجد القارئ نفسه أمام قصص جيدة بلا شك في معظمها، وفي القراءة الثانية سينكشف عالم المجموعة الفعليّ. تبدو القصص في القراءات اللاحقة وكأنها أقرب إلى لوحات دراميّة أو مشاريع رواية مُجهَضة تكاسل الكاتب عن التوسّع فيها أو وجد أنّ اختزالها يؤدّي غرضها المنشود على نحو أكبر وأدق. قد نرى قصة أو أكثر في مشاريع روائيّة لاحقة لرامي طويل، ولكن فلنبق ضمن المجموعة كلها كما هي. القصص كلها غارقةٌ في أوحال بطش السُّلطة وسطوتها. الشخصيات مسحوقةٌ كلياً لأسباب متباينة، أما الثابت فهو القهر. يصحّ هذا التوصيف على قصص الطفولة بالقدر ذاته الذي يصحّ فيه على قصص الحب أو حتى القصص التي يعرض فيها الكاتب شخصياته بين مرآتين، بين زمنين، تنسحب سمات الزمن الأول الأقسى على الزمن الثاني الذي كان يُفترَض به أن يكون أجمل. ليس ثمة نهايات سعيدة في القصص، إذ تبدو النهايات السعيدة من كوكب آخر لا علاقة له بما يحدث هنا والآن، بل في جميع اللحظات. ما يميّز قصص «قبل أن تبرد القهوة» هو الالتقاطات الذكيّة التي لا بد أن تنتهي نهايةً مأساويّةً تكاد تكون متوقّعة. مرةً أخرى، ليست الحكاية ما يهمّنا هنا، فالحكايا أصبحت متطابقةً تقريباً، المهم هو الالتقاط البارع لتفصيلٍ ما، ومعالجته بحيث ينسج منه الكاتب حياةً كاملةً أخرى، سيكملها القارئ أو ينسفها حتى في القراءات المتعددة للكتاب. الفكرة المحوريّة عند رامي طويل، هي أنّ القهر هو خالق الزمن الجديد. ليس لأحد نجاة من سلطته التي ستطحن الجميع بلا استثناء، حتى لو كان على نحوٍ غير مباشر، بحيث تبدو الضحايا أضراراً جانبيّة للعبةٍ أكبر منهم. هذا ما نجده في «منشور سرّي» أولى قصص المجموعة، حيث تُنْسَف الطفولة لصالح الفكرة الأكبر، حتى الأحلام سترتبط بما يشاؤه إله القهر ذاته، أما اللاوعي فسيغدو هو الوعي الفعليّ لنجد فريد وقد «صفّق طويلاً مع رفاقه، وهتف بعبارات لا يعرف معناها، لكنّه جاهدَ ليكون صوته مسموعاً»، لتتماهى أحلامه لاحقاً مع الأحلام المفروضة عبر التلفزيون في المناسبة الوطنيّة المجيدة؛ وكلّ مناسباتنا مجيدة! تزداد جرعة القسوة مع انتقال المشاهد إلى الحرب الحقيقيّة بدمائها وقصفها وضحاياها، في قصص «الطريق إلى البيت»، و«القنّاص»، و«الهاربان»، و«عيون مغمضة». سنجد هنا الطفولة ذاتها وقد تلاشت بعد أن فجّرتها نيران الحرب. وكأنّ رامي طويل يومئ إلى أنّ البلاد التي تتلاشى فيها الطفولة لا معنى للحياة فيها، ومصيرها الحرق بلا شك، بصرف النظر عن حارقيها. تُبتَر الحياة فجأةً حين تنقصها الطفولة، بحيث تبدو القصص ذاتها مبتورة النهاية أحياناً، أو ذات نهايةٍ عجولة أحياناً أخرى، بحيث لم يُتَح للقارئ التأمّل الكافي، كما في قصّتَيْ «القنّاص» و«النظّارة» اللتين ظُلمتا عند حبسهما في قالب قصصيّ مقيَّد رغم تفاصيلهما الرائعة وعالميهما اللذين كان يمكن توسيعهما على نحو أكبر حتى لو حُذفتا من المجموعة لمشاريع لاحقة.
«قبل أن تبرد القهوة» قصص عنا ولنا. الإيقاع في معظمها سريع ويكاد يكون لاهثاً كأيامنا التي نقضيها في ملاحقة الأخبار العاجلة، من دون أن نجد وقتاً للراحة والتقاط ما تبقّى من أنفاسنا قبل أن يدهمها طوفان ما، ومن دون أن ننتبه حتّى للقسوة والوحشيّة اللتين تقضماننا ببطء قبل أن تلتهماننا تماماً قبل أن تُعيدا خلقنا على صورتهما.