كانت ليلة طويلة من شتاء 2007. برغم أن الليل صار ينتهي في بغداد عند السادسة مساءً. وما بعدها، لمن يبقى خارج البيت، هو بحر متلاطم من أوقات العتمة والخوف لا تفرّق بين السابعة والعاشرة والحادية عشرة مساءً.
السيارات قليلة. والعجلات الأميركية العسكرية تضرب بأضوائها من بعيد معلنةً حضورها، فتزيد من حذر السيارات. حالما يلمح السائق الأضواء الكاشفة للعجلات العسكرية يستمر فيما هو فيه، إن كان سائراً بسرعة خمسين كيلومتر في الساعة فسيبقى على هذه السرعة. إن كان واقفاً فسيظل واقفاً، حتى تختفي الأنوار المخيفة.
رفعتُ يدي أمام سيارة لم أتبيّن معالمها. توقفت برغم أن العجلات الأميركية كانت تقترب.
ـ إلى حيّ أُور.
قلت له، دون أن أرى وجهه بوضوح.
ـ ما أكدر.. أوصلك لباب الشرقي.
ـ لا يمعوّد.. باب الشرقي هسه ما بيه سيارات. فارغ.
ـ ما أكدر.
قال ذلك والتفت برقبته جهة السيارات العسكرية التي مرت بجواره. ظلت تهدر على الاسفلت، وبقيت أنا منحنياً على فتحة النافذة في السيارة، وخشيت أن ارفع جسدي لأنظر بدقة أكثر الى أبدان هذه العجلات المخيفة. بقيت جامداً حتى ابتعد الرتل العسكري، فكررت رجائي للسائق المجهول:
ـ وصّلني أي مكان بس مو الباب الشرقي.
ـ إصعد.
كان شاباً ممتلئ الجسم، حليق الوجه بياقة بيضاء عالية. لم تكن هناك علامات معينة في سيارته تساعدني على معرفة هويته، هل هو سني أم شيعي، هل هو إنسان بسيط أم رجل متحمس لعقيدته؟
لم يشغّل المسجّل ولا الراديو، ولم يتحدث. اندفع بسيارته القديمة بسرعة كبيرة، ثم اكتشفت أننا نقترب من العجلات العسكرية الأميركية. ها هي أمامنا. ما الذي يخطط له؟ هل يريد اجتيازها، أم تفجير نفسه فيها؟ ربما لأنه سائق ويدور في الشوارع على مدار الساعة فهو يعرف أن لا مشكلة بالمرور بجوار هذه العجلات. أنا من يبالغ في مخاوفه منها. ها هو يقترب منها. ضرب أحد الجنود أعلى الهمر الأميركية بضوء كاشف في يده على وجوهنا. خفف السائق من سرعته، ثم انعطف فجأة في شارع فرعي.
ـ وين رايح منّاه؟
ـ هذا طريق مختصر... لو تريد الاميركان كِدّامنه وين ما نروح.
ـ طريق مختصر يعني شلون؟ وين رايحين هسّه؟
ـ مالك شغلة.. إلك الصافي.
ظلت السيارة تندفع بقوة على إسفلت شارع فارغ، وكلما تقدمنا أكثر ازدادت عتمة الشارع، حتى إنني فكرت في أن السائق لا يخشى وجود حفرة أو حاجز كونكريتي. ربما لأنه متعود المرور في هذا الشارع، كما أنه يستطيع رؤية المساحة التي تضيئها مصابيح السيارة أمامه وهذا يكفيه.

ظل صامتاً، بمظهره الحيادي الذي لا يكشف عن أي هوية. فكرت في أن أحادثه، أن أجبره على تجاذب الكلام معي لكي أزيل قلقي، ولكنه بدا جامداً وصلباً مثل تمثال وراء المقود. تسارعت الصور المخيفة في رأسي وتناسلت، وظل جزءٌ مني يخبرني على نحو متصاعد أنها النهاية. هذه هي النهاية التي تخيلتها مراراً في أوقات سابقة. سيخفف من سرعة السيارة فجأة، ويدخل في شارع فرعي تغطيه الأشجار الكثيفة، ثم يتوقف، ويطلب مني النزول. أنظر إليه وأراه يشهر سلاحاً في وجهي، ثم يظهر أشخاص منقّبون عند جانبي السيارة ويأمرونني بالنزول أيضاً. سيفتح أحدهم الباب ويسحلني بقوة. لن يطلبوا شيئاً ولن يتحدثوا بأي كلمة. يسحلون جسدي المستسلم وأقع على وجهي على التراب الرطب. وستكون اللحظات بعدها غالية وعزيزة، لحظات تساوي أعماراً طويلة مما يمكن أن أعيشه. وسيكون انتظار اللحظة السيئة بينها، لحظة الختام والنهاية، هو رعب ما بعده رعب.
انبلجت أضواء ساطعة على الطريق أمامنا، ثم اتضحت الصورة. كانت أنوار بيوت وتقاطع شوارع. خففت السيارة من سرعتها، ثم دخلت الى نهر الشارع العام. كانت هناك سيارات أخرى تمرق. وكنت جامداً في مكاني حين توقفت السيارة بي، والتفت السائق قائلاً:
ـ أخويه هذا حدي.. ما أكدر أعبر لذاك الصّوب.
ـ ايه.. ايه أشكرك.
قلت له ذلك ثم نقدتُه الأجرة ونزلت على الرصيف. أغلقت الباب وانطلقت السيارة مبتعدة. بقيت واقفاً أنظر الى جانبي الشارع، كم الساعة الآن؟ إنها ساعةٌ ما غير ذات معنى داخل محيط متلاطم من الوقت المرعب. علي الآن أن أوقف سيارة أجرة ثانية، وربما لن توصلني الى البيت أيضاً، واضطر الى ركوب ثالثة ورابعة. هكذا أقطع الطريق على جرعات، حتى الوصول المستحيل الى البيت.
والشيء الأكثر إرهاقاً أن علي تكرار تجربة خيالي الفائض مرة تلو أخرى.
في هذه الأثناء توقفت سيارة أجرة أمامي. أنزل سائقها زجاج النافذة وصاح علي:
ـ ها... تروح؟
قال ذلك وكأنه يعرفني. دققت النظر فيه ولم أعرفه. كان يضحك، وتعلو أغنية صاخبة لصبيحة ذياب من مسجلة السيارة.
ـ لحيّ أور.
ـ يلله إصعد.
قال ذلك، وزاد ارتباكي.
ـ كم تطلب؟
ـ ولكْ إصعد...
صاح بي ضاحكاً رافعاً الكلفة بجرأة وكأنه صديق قديم. صعدت، مثل دجاجة تدخل برجليها الى فرن المايكروييف. انطلقت السيارة متمايلة على صدى سُكْر السائق الواضح.
ـ آني طالع تحدي.. أريد منو يوكفني.
قال ذلك معلناً بأن شهيته مفتوحة للحديث، وليس مثل ذلك السائق الغامض المخيف. والحديث يعني زيادة في الإطمئنان، ولكن هذا السائق يتحدث عن شيء لا يثير الإطمئنان. ظل يثرثر وهو يقود سيارته بحركات جريئة بين السيارات، وأفهمني أنه يخرج الى الشوارع كل ليلة في تحدٍ للآخرين؛ للأميركان والميليشيات السنية والشيعية وكل شخص يمكن أن يقف في طريقه. إنه يبحث عن المواجهة. إنه يشعر بقرف هائل من الأوضاع العامة لذلك يسكر من أجل أن يحصل على شجاعة كافية للمواجهة. إنه خارج على القانون في طور الكمون، ويريد مواجهة. وأنا معه في مركبه هذا، وشريك له في هدفه ومسعاه. شريك متعب ومرهق جداً من أحداث النهار ورعب الليل.
ـ تعرف منو الجاي يغني؟
سألني فقلت له إنها صبيحة ذياب، فضحك وهو يضرب بيديه على مقود السيارة في حالة من النشوة والمرح، قال: هذا مطرب مو مطربة. قلت له: لا.. هاي صبيحة ذياب أو وحدة من الغجريات.
ـ هذه ساجدة عبيد؟
ـ لا.. هههههههه.
شغلني الجدال الموسيقي عن مخاوفي قليلاً، وانشغلت عن متابعة الطريق الذي كان ينهبه السائق السكران بجنون، متفادياً بصعوبة الارتطام بالجزرة الوسطية أو بأبدان السيارات القليلة التي كانت تمرق في الشارع في تلك الساعة.
مرت سيارة حوضية بيضاء اللون بجوارنا وبدا أنها تسير بسرعة موازية لسرعة السائق السكران. انتبهت سريعاً أنها محملة بشباب يلفّون الغتر المرقطة على وجوههم. كان السائق والشخص الجالس بجواره من دون نقاب. ربما لأنهما لا يحتاجانه. الشباب في حوض السيارة يتعرضون لتيارات الهواء الباردة، ومن حقهم أن يلفوا رؤوسهم بالغتر المرقطة أو أي شيء آخر. كانو ينظرون إلينا نظرة ساكنة. ثم اتضح لي أنهم يحملون الأسلحة، وشككت أن سائقي المخمور انتبه لأي شيء. لكنه خيّب ظنّي. أخرج يده اليسرى من النافذة المفتوحة، واكتشفت أن هذه اليد كانت تحمل طوال الطريق علبة بيرة خضراء اللون.
ـ ها.. سرسرية.. رايحين تتسوكون؟.. عزرايين وداكم؟
صاح بالشباب في السيارة الحوضية ثم قذفهم بكل قوة بعلبة البيرة. ضربت العلبة بدن السيارة ثم داست عليها السيارة ولم يحدث شيء خطير. تراجعت سيارة الملثمين الى الخلف فجأة وصارت وراءنا بمسافة عشرين متراً، ربما لأن سائقي المتهور ضغط على دواسة البنزين أكثر، أو لأنهم لا يريدون الانشغال مع سكير يؤخّرهم عن مهماتهم المقدسة لهذه الليلة.
مرت لحظات وجيزة شعرت فيها برغبة شديدة بالتبول، حين انبثقت سيارة الملثمين بجوارنا فجأة وكانت الأسلحة ظاهرة للعيان هذه المرة. وجهوا الأسلحة نحونا وظلوا ساكنين في وضعية التصويب مدة عشرين ثانية. كان صوت صبيحة ذياب عالياً وهي تصيح "زعلان جنه الترف.. ومن الواجب انرضيه". لم أكن قادراً على سماع أشياء أخرى، مثل خفقات قلبي العنيفة، أو قرقرة أحشائي التي تحركت وحدها. كنت كأني أحتمي بصوت صبيحة ذياب مثل حاجز كونكريتي سيمنعني حتماً عن أي خطر داهم. أغمض عينيّ وأتخيل أنني في كافتريا صيفية مع أصدقائي. أسحب من ذراع النرجيلة نفساً عميقاً يصيبني بالاختناق بينما صوت صبيحة ذياب من مسجلة الكافتريا تصدح في الأجواء. أنا لست هنا في هذا الليل، ولست في تكسي الشيطان التي قادها حظي العاثر إلي من دون الآخرين.
سمعت رشقات رصاص، ولكنها ضعيفة. ضربات متلاحقة وبعيدة، وكأنها ليست رصاصات عادية، رصاصات إسفنجية رطبة، تطرق على زجاج السيارة وتسقط سريعاً مخلفة "قبلاً" باهتة اللون.
كان السائق الذي ظننت أنه أحمق ومتهور قد فرمل السيارة بعنف في اللحظة المناسبة. اللحظة التي انطلقت فيها رشقات الرصاص نحونا. استدارت سيارة التاكسي على نفسها عدة دورات ثم دوّر السائق المجنون، وكأنه فرد في عصابة محترفة، من مبدّل السرعة، وببضع حركات سريعة، كان قد انطلق باتجاه معاكس لحركة سيارة المسلحين.
كنتُ مختبئاً خلف "صبيحة ذياب" وأنظر الى ما يحدث وكأنه يجري خلف زجاج مضبّب. وكأنني تبادلت مع السائق وضعية السكر، ففقدت التركيز لنصف دقيقة. صرخت به بقوة، بعد غياب أصوات الطلقات من رأسي:
ـ نزّلني كوّاد... أوكف..
أغلقت المسجلة واختنقت صبيحة ذياب بصوتها المتفجّع. نظر السائق إلي مبهوتاً:
ـ هاي شبيك؟
نزلت من السيارة دون أن أعطيه أجرة. ولم يكن مهتماً بها على ما يبدو. لكنه تراجع بالسيارة الى الخلف وظل يسير بجواري ويتوسّل بي.
ـ إصعد يمعوّد.. هاي شبيك؟
استمر بالتراجع، مخاطراً بأن يصدم السيارات الآتية بالاتجاه المعاكس. ثم بعد أن يئس مني صاح:
ـ هاي مو صبيحة ذياب صحيح.. هاي أستاذتها شكرية خليل.. بس تعال إصعد الله يخليك.. ويّامن أسولف بهذا الليل الأصخم؟!
لم أرد أو ألتفت إليه ومضيت مبتعداً، أراقب وأبحث بعينيّ في أفق الشارع الذي غدا خالياً من السيارات.

* روائي عراقي