القاهرة | سجّلت قصيدة النثر حضورها في دفاتر الأدب الأوروبي قبل حضورها عربياً، وسجّلت حضورها وترسّخها في لبنان قبل حضورها إلى مصر، ربما بعقود، إلا أن أوضح معالمها المصرية، المستمدة من تراكم دفعات ومحاولات متعاقبة، تجلّت في جيل التسعينات المصري: عماد أبو صالح، إبراهيم داود، إيمان مرسال، علاء خالد، أحمد يماني وأسامة الدناصوري الذي دُشِّنَت على اسمه مؤخراً جائزة لقصيدة النثر، تكاد تكون الوحيدة على الساحة المصرية. وفي السنوات الأولى من الألفية دوّت صرخة جديدة في أفق قصيدة النثر المصرية، أسماء مثل: محمد خير، جيهان عمر، رنا التونسي... وغيرهم، ومع مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، يطل جيلٌ جديد في مصر، يكتب قصيدة النثر، بحساسيات مختلفة، وبتنوع يثري المشهد، ويفصح عن أصوات شابة تشتغل بجدية ودأب على تجويد القصيدة. لن يجوز لهؤلاء أن يقدّموا مخطوطاتهم للتنافس على جائزة «أسامة الدناصوري»، التي لا تقبل سوى مخطوطات لشعراء لم يسبق لهم نشر دواوينهم، لكن ربما يمكنهم التقديم في جوائز المجلس الأعلى للثقافة، المفتوحة على كل أنواع الشعر: القصيدة العمودية، التفعيلة، النثر. إذ ربما تسعفنا لجنة تحكيم متطورة – سيكون ذلك من حسن الطالع -، في قنص القصيدة المصفّاة على شعريتها بلا موسيقى ولا قافية أو طقوس وثنيّة بدائية ترنيمية. نفرد هنا مساحة لنصوص وشهادات لثلاثة من الأسماء الشابّة في مشهد قصيدة النثر المصرية اليوم:
(شهادة)
أكتب لكي لا يتحول رأسي إلى صندوق قمامة

ملكة بدر *

لأن ممارسة القتل العشوائي مُجرَمة قانوناً، أو متاحة فقط في إطار قانوني تماماً لرجال الدولة، كتبتُ الشعر. لم يبدأ الأمر هكذا، بل بدأ بموضوعات التعبير التي كان يجزم أساتذتي أنها ليست تافهة، لكنني أعرف أنها كانت، ومن ثم تحول الأمر إلى قصص قصيرة، اختزلت وتم تكثيفها بشدة لتصبح في النهاية شيئاً يشبه الشعر. الغضب تكفل بتطوير «ما يشبه الشعر» إلى شعر، والنضج تكفل بالمزيد من التكثيف. الكتابة لديّ ليست إلا وسيلة هروب أخرى، مثلها كالموسيقى التي أضعها في أذني عندما أمشي في شوارع القاهرة في محاولة لتجنب همسات/ صرخات المتحرشين.

أكتب لأن الكتابة هي وسيلتي الوحيدة للحفاظ على الحد الأدنى من المنطق. بالنسبة لي كامرأة من برج الميزان، المنطق هو العقدة والحل، على كل شيء أن يكون منطقياً إلى أبعد حد، إذا لم يكن كذلك، ربما أجّن، أغضب، أستشيط غضباً في الحقيقة، أحطم كل شيء. المنطق هو أوكسجيني، لكن لسوء حظي، أحيا في أكثر بقاع العالم تخلياً عن المنطق، وعن الشعر أيضاً، بالرغم من ذلك، لجأت للاثنين. كيف كانت علاقتي بالشعر في البداية؟ لم أكن أحبه، لم أكن أتفاعل معه، وظننت أن الشعراء متحذلقون يلعبون بالكلمة مثلما يلعب صبي مراهق بقلب فتاة، إنهم لا يملكون سوى حصيلة لغوية واسعة، تنجيهم مصير الملل القابع عند كل ركن في الرواية والنثر عموماً. لكنني - كالعادة- كنت واهمة، كل ما كنت أطلع عليه هو الشعر القديم، حيث البكاء على الأطلال والتغزل في المحبوبة وكتابة أكبر عدد ممكن من الأبيات في مديح الصحراء (!). لم يكن ذلك النوع من الشعر يحبني، كما لم أحب افتعال الموسيقى حتى في الشعر الحديث، هكذا أطلق البعض على ما أكتبه قصيدة النثر. وأظن أنهم يحملون كل الوزر الآن. الشعر ملاذ ووسيلة ليس فقط لإيجاد المنطق بل لترتيب فوضى الروح والمشاعر اليومية. إنه وسيلة معالجة البيانات الواردة إليّ من حماقات الناس، ساعات العمل اليومية، العلاقات المعقدة، احتمالات الموت المجاني والحظ العثر، غياب الأصدقاء في السجون أو قتلهم «القانوني» لمكافحة «الإرهاب». من هنا يصبح التوقف عن الكتابة بمثابة انتحار بطيء، ليتحول رأسي إلى صندوق قمامة كبير، غير قادر على تدوير ما يدخله، غير قادر على إنتاج أي شيء مفيد للبيئة أو لنفسه. لم تكن البدايات واضحة، وأزعم أني ما زلت لا أعرف شيئاً حتى الآن لأكتبه، إنني فقط أحاول الحفاظ على ما تبقى من عقلي، ويبدو أني أثرثر أكثر من اللازم -على شكل قصائد- في هذا الشأن. أروّض إنسانيتي المهدرة التي نبتت لها مخالب وصارت تترك أثاراً شبه مستديمة على أحبائي بكتابة الشعر، أحاول أن أتلمس فقط الطريق لأعرف «أكثر؟» بينما أدرك في الوقت نفسه أن الشعر يتيم، يبحث عن ملاذه الخاص وليس العكس، وأنني ربما لا أسير للأمام، بل أعود معه إلى الخلف، لكن بالتأكيد، ليس إلى الصحراء ولا إلى موضوعات التعبير الرخيصة.

(نص)
القصيدة غير صالحة للاستخدام الآدمي

فَسدَتْ لأني لم أضعها في ثلاجة الموتى
ولم أزينها بشرائط وردية
أو ألصق عليها وروداً وفراشات.
قصيدتي لا تتكيف مع أحد،
لا تهادن أو تربت بهدوء على مشاعرك،
لا تجعلك تبتسم،
أو تصل بك لأي غاية فلسفية.
قصيدتي ليست ورق تواليت،
ولا نشافة زيت،
لا تساعد المدمنين على لف السجائر فوقها
لأنها سوداء جداً،
لن توصلك للحقيقة أو لأي مكان آخر.
قصيدتي لا تصلح للحكي أو الاختزال،
لا تصلح كغرافيتي على أحد الجدران
لأنها لن تقبل أن يتبول عليها أحد،
أو يطمسها بقصيدة جديدة «نظيفة مهذبة»...
هذه قصيدة تجادلك حتى تفقد آخر أنفاسك
وتضعك أمام نهاية ملتبسة
لا تعرف بعدها أتصفق
أم تملأ يدك بطماطم فاسدة
وتلقيها في وجه صاحبتها.

(شهادة)
لا أريد أن أنقذ العالم من المليشيات



أسماء ياسين **

حتى الآن يبدو السؤال: لماذا تكتبين الشعر؟ سؤالاً صعباً، ولا أعتقد، أنا التي لا أملك يقينا خالصاً تجاه أي شيء، أني سأستطيع في يوم ما الإجابة عنه بشكل نهائي. ربما لو سئلت غداً لأجبت بشكل مختلف. أظن أنني، اليوم تحديداً، أكتب الشعر بديلاً عن أي شيء آخر لا أملك قوة فعله. توفر لي القصيدة تلك اللذة المؤلمة لمواجهة العالم وحدي تماماً، دون شيء، دون أحد. أكتب وأمام عينيّ تلك اللحظة التي وقف فيها شاعر هو أتيلا يوجف أمام القطار ليصرعه شاباً في الثانية والثلاثين، كي لا تسحبني قدماي ذات مساء قريب إلى القضبان المعدنية انتظاراً للقطار.
لم تعد القصيدة هي اللعبة التي تمكنني من خلق العوالم الموازية، إذ ليس ثمة عوالم موازية أصلاً أيها الشاعر، هو عالم واحد، ولا فكاك. لم تعد قادرة على الإجابة عن أية أسئلة كبرى، وليس عليها بعد، بقدر ما تطرحها، وتتركها معلقة، ليس في انتظار أي شيء. مثل أصحابها تنحو قصيدة الصامتين نحو التأمل؛ النظر طويلاً إلى شيء، والخروج في كل مرة بتصور مختلف عنه، ذاك التأمل الطويل المثمر الذي لا يخلّف مللاً. أحياناً يعن للصامتين أن يخبروا الآخرين برؤيتهم الخاصة جداً حول الأشياء.
أنا بالتأكيد لا أكتب «حتى أنقذ العالم من هولاكو، ومن حكم الميليشيات ومن قائد العصابة» مثلما كان نزار قباني يفعل، لا يقدر الشاعر على فعل شيء من كل هذا أو أدنى منه. قمر اليوم ليس قمر الغد، وطريق اليوم ليست طريق الغد، والمجزرة والحب والفقد والخائنون والذين لم يكن علينا أن نلتقيهم، أنظر إلى كل ذلك اليوم، وأراه بعينين قد لا تكونان هما غداً ولم تكونا أمس، إن هذه القدرة على اصطياد التصورات المختلفة المتغيرة عن أشياء، ربما هي ثابتة، أمر مضحك قليلاً، لكن تظل عينا الشاعر تنظران إلى العالم من ثقب أكثر اتساعاً، وعلى الرغم من ذلك فما زالتا تتسعان حتى الآن إزاء القبح المفاجئ والجمال المفاجئ، فاه الشاعر ما زالت فاغرة وستظل، حتى تقوده قدماه إلى قضبان قطار معدنية ليقضي شاباً أو تنقذه القصيدة.

(نص)
ماء البحر يروي... ماء البحر عذب

خبأت جناحين
وارتديت قبعة سوداء
كي أشبه الباقين
ثم قلت لكل شيء: كن
وانتظرت
ربما لا يعرف الناس
أنا لا أقطع المسافة
من هنا إلى أي مكان
بسرعة أكبر مما ينبغي--
تقطعني هي
أثقلُ على الوقت
ولا أرى نفسي غير سمكة ملونة
سمكة ملونة
ربما خضراء لامعة
على الأقل ليس هناك من يفكر في صيدي
لكن من حولي ماء
ومصباح كهربي كريه لا ينطفئ، فوق رأسي
والحوض الذي بلا سقف لا يسمح لي بالهرب
لم أعرف بالصدفة أن الموج ينبثق من لا شيء
عرْضيا وفجأة تظهر الموجة
عرْضيا تمشي حتى تختفي
يظن كثيرون أن الموج يكون قرب الشاطئ في الليل
لا يعرفون أنه يكون قريباً فقط في الليالي الهادئة
كلّفتني معرفة ذلك الكثير
جلست عند الحافة
طويلاً
حتى عرفت
لأني لا أريد شيئاً
أسافر كثيراً هذه الأيام
لو تتركني الحياة لشؤوني
طيب، فلتتركني لما لا شأن لي به
لو تتركني
يمكن لأني لم أرسل قط شيئاً إلى السماء
ولا حتى طائرة ورقية!
كانت الطفلة النائمة ما تزال خلف أذني تحلم باستمرار أن تصير لا مرئية، كي تدخل كل المكتبات في المساءات بعد موعد الإغلاق، وتقرأ كل الكتب، تقرأ حتى يكف بصرها، وقرأت. وكانت الصبية التي تضع نظارات طبية، ربما لم تكن في حاجة إليها حقاً، لتليق برائحة الورق الأصفر تحلم أن تصير لا مرئية كي تخرج بعد أن تنام أمها، وتظل قرب النهر حتى تشرق الشمس
وكنت أنا
حتى الآن أحب أن تشرق الشمس
ويختفي بقية النهار
ويجئ الليل
ويطول الليل
وأن أصير لا مرئية
فيخطئني الألم
وكنت أنا
الوحيدة في العالم التي تعرف
ماء البحر يروي
ماء البحر عذب.

(شهادة)
هدفي أن أجنن القارّة



هرمس
نحنُ جميعاً متفقون على أن نصمت، ليس هذا الصمتَ (عن) شيء، لكنني أقصد ذلك الصمتَ البدائي، الصمت الفاضح الذي نرعاه، رضعناه من عيون الأمهات، الصمتُ الجذري الذي لن يحطمه إلا صوتٌ جذريّ، ليهدم كل اللعبة، كل الرمزيّ المتواطئ.
الحادثُ حالياً أن الصوت العام يقرعُ طبول الواقعية من جديد، وهذه هي الدائرة القدرية المفرغة التي يدور فيها العالم. الإرهاصات بدأت في اليأس من سنة 90، وعندما كان من كان يوبخ الواقعية الاشتراكية ويهذر عالياً ويشد آذان المدارس الحكومية وطبول أشعارها المصنوعة من جلود العامة، والآن يكون المهذار نفسه ويبخ علينا حوض مطبخه المسدود. لماذا عليّ أنا أن ألوحَ بغسيل جارتي وملاعق زوجتي في جوهكم؟ بينما يكسّرني العالم إلى الخيالِ المفتت في خيالي؟ وأنا حَمْدًا قرضتُ الشعرَ بين الروح والجسد، والمادّةُ انقلبت في عيني، لا، ولأكون مُطَاعا لأقول المادة: تطهرّت. الصنعةُ دارت ولا توارت الجبال، ولا سبكَ أحدٌ بلاطاً لسطح البحر. أمسكوا بالخيال واقفاً على انعطافة الطريق، متكئاً على عامود مآتم اللغات، يصفّر ألحاناً ثورية؛ فماذا فعلوا به؟ أنشبوا فيه سكاكين السوبر ماركت البلاستيكية المختصة بكعك الهواء المطلي بالألوان؛ وضعوا على رأسه جناحي يمامتين مختلفتين، وعلى فمه - مكان وردة كان يلفها بلسانه- مذياع أول من استيقظ وقُدِّمت له الخمرةُ في القهوة والحشيشةُ في الندوة والأفيون المخلّق في معامل الشعب ليسكّن آلامه الكونية العظيمة. لكي أكون محايداً وصريحاً شممتُ الكثير من الروائح، لكي أكون محايداً وصريحاً ونظيفاً أمسكتُ بالوَسخ، لكي أكون محايداً وصريحاً ونظيفاً وجذرياً، مكثتُ على الشيء لأخرجه إلى القارّة وتجن الناس. هدفي أن أجنن قارّة. والقارةُ ستجنّنُ عالماً.

(نص)
سحابة ماياكوفسكي

ولدٌ يمكنك أن تسمّيهِ سحابةً، كسحابة ماياكوفسكي، يمشي في جينز طوال النهار، وفي الليل، يرقد في سريره ويرسلُ أفكاره إلى سحابةٍ بعيدة.
تمرّ عليه الفصول، فصلٌ يطيره ركاما، وفصلٌّ يعصرهُ فيتقاطرُ على الشوارع، وهو فوق مدينة واحدة، يراقبها من بعيد
لقد أتى الشتاء وها هو يفرغُ من نفسه إلى آخرها، ويهبطُ في الجينز، مثل جسدٍ من ماء، يمشي في الجينز، لدرجة أنك يمكنك أن تغسلي يديكِ إن صافحته. أو أن تغسلي وجهكِ من تعب المدينة، لو أنك قبّلته. 
كلّ ربيع، يتسرب من فتحتي الجينز إلى الشارع، ويبحثُ عن أشجار، يصنعُ منها عكازاً لقلبه الذي بمرور صيف وشتاء، قد صار عجوزاً. في البداية يلقي محاضراتٍ عن روعة الحرّ، ثم يكرّزُ في النّاس بأن بداية الشتاء والموت، هي أول الحياة، فالنهار يطول، والعشبُ ينتعش.
أجلسُ مثله عجوزاً متسائلاً إن كانت الأيامُ التي مَضَتْ قد سنّت حياتي، وشّذّبت نصال العشبِ الأزرق الذي يدخلُ إلى العُمر أخيراً في مارش بطيء.

* شاعرة مصرية (1987)، صدر لها ديوان بعنوان «دون خسائر فادحة» عن (دار ميريت للنشر) عام 2011.
** شاعرة مصرية (1979) من أعمالها «البحر سعر العازف» (شعر ــ 2013)، و»كرسي ازرق في نهاية البهو» (نصوص ــ 2007).