أرمي الجثة التي أحمل على السرير. أفك وثاق نهديّ. أفتح ذراعَي النافذة القريبة بأصابع قدمي، أرى الغيم اليابس فوق رأسي. الهواء ساخن، أحدق في السقف المقشر طويلاً، القشرة المعلقة تدفعني إلى التفكير بحال قلبي.أفكر في الرجل نفسه، الذي رأيته في منامي يتحول إلى وحش أثناء ركضه. أسحب الحاسوب نحوي، أفتح الفايسبوك، أتذكر أنني نسيت إعداد العشاء. أغلق الفايسبوك، أنزل الدرج إلى المطبخ، يتحرك نهداي بشكل يُحرجني، ألوي ذراعي خلف ظهري وأقيّد نهديّ مجدداً بصعوبة.
أُعِّدُ معجنات بصلصة الطماطم، أعدّها بسرعة لأن الرجل يركض داخل رأسي ويتحول، يتوحش، لا يتوقف عن الركض والتحول. وأنا أتعذب. أتصرف بأنانية وأضيف رشّة ملح زيادة لأنني أحب الملوحة وأنسى ذوق الآخرين. أرى عينيه المشتعلتين، أتصرف بأنانية مجدداً، أُضيف الفلفل الحار الذي يؤذي أمعاء الجميع ويؤذيني، لكنني أحبه.
ما زال يركض ويلهث داخل رأسي. يتصاعد بخار الأكل، يتكون الضباب على الجدار القريب، فأكتب اسمي بتاء مبسوطة على السيراميك المُضَبّب. دائماً، في كل فرصة مشابهة، أكتب اسمي. لا أدري لماذا؟ لكن هذا ما يحدث. أفكر في ضرورة مراسلة صاحب العينين المشتعلتين. في نفس اللحظة، أبرر لنفسي ضرورة عدم مراسلته إن لم يبادر هو. يعجبني لكنني لن أبادر بالحديث، يؤذيني هذا الصمت ولا يليق بي كامرأة ناضجة أن أفكر بهذا المنطق. لكنني أفكر وأتأذّى وأصمت.
أقرر أشياء كثيرة، وأعدل عن كل شيء في نفس الدقيقة. أنتهي من الطبخ، أصعد إلى غرفتي في الطبقة العلوية، أحمل حاسوبي، أفتح الفايسبوك، أدخل صفحة الرجل الذي ما زال يلهث داخل رأسي، أشاهد كل صوره الشخصية، أستغرب بريق عينيه المشتعلتين في كل صوره. أشاهد كل صوره وتعجبني ولا أبصم. لا يجب أن يعلم بمروري. أقرأ جديده وقديمه. أستحضر السيد سيغموند فرويد، ونيتشه، والدكتور برويَر الذي كان صديقهما بفيلم «عندما بكى نيتشه». أستحضر بروير بسبب صوته فقط، لأنه يساعد الأشياء العالقة بداخلي على السقوط... أستحضر لو سالومي ومنطقها، أستحضر والدي الذي يضرب الجدار ويشتمه ويلعن أجداده إن اصطدمت به وأوجعني. أستحضر أمي، التي دائماً توبخني لأنني أبالغ في فتح أفواه أبوابي في مرحلة يجب أن أُبَسِّمَها فقط. أستحضر ما يمكنه مساعدتي.
أمرّ على منشورات الرجل وأقرأ أكثر، أفتح نافذة الرسائل، أكتب شيئاً، يبدو تافهاً فأحذفه. أكتب شيئاً آخر، ثم أحذفه، أكتب نفس الشيء بكلمات مغايرة، تعجبني للحظة ثم فجأة لا أحبها وأحذف. لا أذكر كم مرة كتبت الرسالة، لا أذكر كم حذفتها، أذكر أنني قضمت كلّ أظافري ولم أبعث شيئاً.
أبوابي لا تضحك يا أمي، لا تبتسم، أبوابي تئنّ. والبكاء ازدحم الآن بصدري، إنه يتصاعد. لا أريده أن يخرج الآن، فالغيم فوق رأسي يابس والله يغمز. لطالما اعتقدتُ أن الله يغمض عينيه طوال الوقت، وما يسمونه البرق، هو لحظة يفتح فيها الله عينيه، لحظة قصيرة جداً، يرى فيها شيئاً بسيطاً جداً فينهمر بالبكاء.
لن أُخرج ما بصدري الآن، سأنتظر المطر، حينها سأسمح لكل شيء بالبكاء تحت الماء، حينها فقط، لن يلاحظ أحد أنني وأشيائي نبكي.

* شاعرة من المغرب