الليلة، تنطلق دورة جديدة من أعرق مواعيد النشر في العالم العربي، ألا وهو «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي ينظّمه «النادي الثقافي العربي»، بالاشتراك مع «اتحاد الناشرين اللبنانيين». تأتي هذه الدورة التاسعة والخمسون في ظروف مضنية، يصعب فيها النظر إلى الأمام، واستشراف المستقبل. مستقبل لبنان، مستقبل العرب، مستقبل الفكر والثقافة والأدب والإبداع.
مستقبل النهضة والعقلانيّة والتنوير… في زمن الأمية الفكريّة وهمجيّة المقهورين وسرطان المذهبيّة وتصدّع الهويّات وركاكة القيم والمعايير، وانهيار الذوق العام، وديكتاتوريّة السوق، وتأمْرك النخب والأجيال الصاعدة، وطاعون التمويل الخارجي للفكر والإبداع والمبادرات المدنيّة الذي يفرز «ثقافة أوف شور»… هل نضيف: وانحسار القراءة، ومزاحمة وسائل التواصل الجديدة التي يبدو للوهلة الأولى أنّها ستقضي على الكتاب لتحلّ مكانه؟ نعم كل هذا. ليست رؤيا كابوسيّة، بل توصيف نقدي للمأزق الحضاري الذي يعيشه العرب، ويصيب واحاتهم الحضارية ومناراتهم.
ما تراه يكون مستقبل صناعة الكتاب، في بلد غارق في الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والأهليّة والوجوديّة؟ أي نشر، أي كتاب في منطقة على كف عفريت، مخيّرة بين الوباء الأسود، وخشبة خلاص من إنتاج الاستعمار الذي جنّد جزءاً لا بأس به من الأنظمة والنخب العربيّة في خدمته، بشكل مباشر أو غير مباشر؟ أي مستقبل للكتاب وجحافل الهمج يحرقون الكتب ويحطمون الآثار، ويحجبون العقل ويصادرون الوعي، ويقطعون الرؤوس بمباركة ضمنيّة من الغرب الديموقراطي، ويغمسون رايتهم القاتمة بالدم في كل الأصقاع؟ أي مستقبل للكتاب والأميّة الزاحفة تجعل من أمّة الضاد أرضاً يباباً…
الأسئلة عينها نستعيدها اليوم، محاولين عدم الاستسلام للنظرة المتشائمة. الناشرون الكبار إلى انحسار أو تقاعد، الناشرون الجدد يدفعون الصخرة بصعوبة، في رهانهم على الاستراتيجيّات والأقلام البديلة. يكفي أن نقارن حركة النشر والقراءة في السبعينيات والثمانينيات مع ما نعيشه اليوم كي يصيبنا الإحباط. لكن البكاء على أطلال الماضي لا ينفع. والمقاربات السلبية لا تساعد على تجاوز المأزق. والخيار الوحيد الموجود أمام أهل النهضة، هو مواصلة المسيرة والبحث عن آفاق التجاوز وإعادة التأسيس. من هذه الزاوية أساساً، نقارب معرض الكتاب في بيروت، وبهذه الروحية نستقبله، مركّزين على النصف الممتلئ من الكأس. لعلّ الكأس ممتلئة أكثر من النصف! سيفاجأ زوار «بيال» ابتداءً من هذا المساء، بنوعيّة العناوين الجديدة ووفرتها، بهذا الزخم من الأسماء والأجيال والتجارب، بعودة الكتّاب الكبار في لبنان والعالم العربي، بترسّخ حضور أجيال الورثة أيضاً. رغم كل شيء، وفي قلب الدوّامة، ينعقد معرض الكتاب في موعده الثابت منذ عقود، موجّهاً إلى العالم رسالة واضحة: بيروت ستقف سدّاً بوجه الانحطاط الذي يلوح في الأفق، وهناك في خدمته آلة إعلامية ودعائيّة وأيديولوجيّة ضخمة. بيروت الخاضعة لوصاية المافيات السياسيّة والاقتصاديّة والطائفيّة، تنتابها كالعادة رغبة التمرّد. تمرّد هو سرّ وجودها عبر الأجيال. تمدّ لسانها وقلمها للغزاة على اختلاف مشاربهم، وتنفض عنها الأيديولوجيا الرجعية الظلامية التي تمتد جسراً بين مسخين: الانحطاط التكفيري والاحتلال الإسرائيلي. بيروت تتمسك بنهضتها وتدعونا جميعاً إلى التحصّن بالكتاب، أي بالنقد والعقلانيّة والوعي والتعدديّة واحترام الآخر وتمجيد الحريّة وتقديس الاختلاف. بلى، لا تزال هناك بقعة الضوء واسعة، وعلينا أن نحميها ونعمل على توسيعها لتغمر المشرق والمغرب. بلى، بيروت هي ضمير العرب، وقلب المدينة المتعب يتسع لكل العواصم: بغداد والشام وتونس والقاهرة والجزائر والقدس والبيضاء وأخواتها. بيروت ستبقى عاصمة للنشر العربي، وموئل النهضة، وعاصمة التنوير.