بدر الديب... مؤرخ الخراب | عندما أتذكر بدر الديب، أراه وهو يتحدث عن كتاب قرأه أو ما زال يقرأه. ولا يكون حديثه مجرد عرض لأفكار الكتاب فقط، بل تأمل لأسئلة أثارتها القراءة، وتدفعه غالباً إلى البحث عن كتب أخرى مرتبطة بهذا الكتاب. فالقراءة كانت بالنسبة إليه رحلة تغيِّر من القارئ بقدر ما يضيف إليها.
أثناء ترجمته كتاب «الوجود والموت» التي استغرقت منه سنوات طويلة، كان يرجع إلى المصادر التي اعتمد عليها الكتاب. زرته مرة، فوجدته مستغرقاً في إعادة قراءة أعمال هايدغر حتى يستطيع كتابة الهوامش التي أضافها إلى الكتاب، ويطمئن إلى وضوح ترجمته. لم يكن هذا مجرد حرص على أن يكون أميناً ودقيقاً إلى أبعد حد ممكن في الترجمة، بل لأنّ الكتب أو النصوص التي اختارها ليترجمها كانت تلبي ضرورة معرفية ملحة بالنسبة إليه، وتمثل جزءاً من حواره الدائم مع أسئلة فلسفية تؤرقه وتشغله مهما شغلته ظروف الحياة. ما زالت هناك نصوص ترجمها لم تر النور بعد، مثل قصائد إميلي ديكنسون التي نشر عدداً منها في «أوراق زمردة أيوب»، لكن أغلبها لم ينشر حتى الآن.

تنقض «إجازة تفرّغ» تصورات شائعة وراسخة عن علاقات الفن بالوجود
في شهادته «جروح الروح»، كتب بدر الديب عن وثائق النفس التي كان ممكناً أن تعينه في الحديث عن نفسه ومنها «كل الكتب والقراءات التي قمت بها وما زالت آثارها في مكتبتك التي امتلأت واضطربت حتى أصبحت كالنفس لا يمكن الإمساك بها أو السيطرة عليها».
إن بدر الديب من أهم الكتاب الذين استطاعوا إقامة حوار بين الأسئلة الفلسفية ونصوصه الشعرية والسردية، دون أن يكون البعد الفلسفي عبئاً على النص الإبداعي، خاصة في روايته «إجازة تفرغ» وفي قصتي «حديث شخصي» و«لحم الحلم». فالانشغال الفلسفي كان تجربة أصيلة لديه، لم يقتصر على إبداعاته فحسب، بل شمل أيضاً حواراته وترجماته وكتاباته النقدية في الشعر والسرد والفن التشكيلي. وقد يكون هذا البعد الفلسفي من أهم أسباب تأخر نشر كتابه الأول «حرف الحاء» وعدم الاهتمام به أكثر منذ أربعين سنة. فقد كتب في وقت كان الغالب فيه مشابهة الواقع أو محاكاته وليس مساءلته أو تأمله فلسفياً. يكتب في «جروح الروح» أنّ طه حسين حينما ذهب إليه صديق لبدر بنصوص من هذا الكتاب لنشرها في مجلة «الكاتب المصري» اكتفى بالتعليق «غريب» ولم ينشرها.
تكشف رواية «إجازة تفرغ»، بصورة نادرة في الرواية العربية، إشكاليات الفنان في واقعه المأزوم الذي يعاني من حالة «الحصر»، والثمن الذي يدفعه نتيجة تفرد رؤاه التي قد يدهسها المجتمع ويقصيها. هذ من خلال شخصية الفنان التشكيلي حسن عبد السلام الذي يعمل رساماً في إحدى المجلات القاهرية، ثم يقرر السفر إلى الإسكندرية في إجازة تفرغ ليعيد التفكير في حياته وعلاقاته مع المحيطين به، ويتأمل المشكلات التي تواجهه في عمله الفني. وفي الوقت نفسه، يكشف عن تأملاته العميقة في «الكوميديا الإلهية» لدانتي وكتاب «ألف ليلة وليلة» الذي كتب عنه «كأنني أقول ألف ليلة فيها مذهب فني للعمل دون إطار لاهوتي أو فلسفي، ودون محدد إلا التجربة نفسها». واستطاع من خلال هذه الشخصية أن يتأمل المجتمع المصري في فترة حرب الاستنزاف. ومن دون الوقوع في فخ المباشرة السياسية، ربط بين مجتمع محاصر ومأزوم وحصار الفنان بأسئلته وذكرياته.
إن تفرد الرواية يأتي من أن رحلة الفنان مع عمله الإبداعي أو تجربته الفنية أساس الحكاية نفسها، وعناصر تلك الرحلة من تساؤلات وتأملات وذكريات يتم سردها كأنها شخصيات روائية تتصارع، وتشكل حكاياتها المتشابكة، وتنقض تصورات شائعة وراسخة عن علاقات الفن بالوجود.
وفي «لحم الحلم» آخر كتبه السردية، تصير تأملات الراوي في طبيعة الأحلام وعلاقاتها بالكتابة الرابط الذي يربط قصص الكتاب، ويكتب الراوي أحداثاً لا تنسى في حياته كأنها تماثل الأحلام في تعدد دلالاتها، أو صارت أحلاماً لا تفارقه ولا يكف عن تأويلها وإعادة كتابتها «لكني هنا لا أؤلف حلماً ولا أصطنعه، لكني أعاود تذكر واقعة استحالت بصورها وأحداثها إلى حلم مصاحب لي على مر السنين، وما زلت لم أفض أسراره كاملاً لأنه إشارات غير واضحة إلى حجر رشيد والى شفرة جسد الأنثى».