بأسلوب متقن، ومنذ الكلمات الأولى يضع ألبرتو مانغويل (1948)، قارئه في خضم روايته «عودة» (دار الساقي ـ 2015 ـ ترجمة يزن الحاج). صاحب سلسلة الكتب التي تحدّثت عن فعل القراءة («تاريخ القراءة»، «مع بورخيس»، «يوميات القراءة»، «فن القراءة»، «المكتبة في الليل») يتقن فنّ حيازة فضول القارئ، بعيداً عن التذاكي، ومن دون الحاجة لاستعراض المهارات اللغوية. ببساطة يخبرنا الكاتب والروائي الأرجنتيني ـــ الكندي أنّ بطله فابريس يعود إلى مدينته الأصليّة في أميركا الجنوبية، بعد ثلاثين عاماً من الغياب عنها، أمضاها في مدينة روما، لحضور حفل زفاف ولده في المعموديّة. وبعبارات مختصرة يروي لنا أنّه ترك روتينه اليوميّ المريح لمصلحة بهجة غير أكيدة، هو الذي سبق أن أقسم أنّ مدينة طفولته وشبابه ستنتمي يوماً إلى الماضي البعيد. غير أنّ البناء الحكائي، مع التقدّم في الصفحات، سيختلف عمّا يمكن أن ينتظره القارئ في البداية، حيث تغدو المصادفات هي الحدث، وتنعطف الحكاية، مع كلّ منها، إلى أغوار يجد القارئ نفسه متورطاً بها، وغير معنيّ بالسؤال عن الحكاية (الذريعة).
سيعثر فابريس مصادفة على مكتبة أرسطو التي تعوّد أن يشتري منها الكتب فيما مضى، وهناك سيلتقي ليليان، الصديقة القديمة، بعدما تبيّن أنّه أخطأ في اسم الفندق الذي كان عليه الإقامة فيه. سيروي لها تفاصيل حياته في روما، وهو ينتبه إلى أنّها فقدت إصبعين من يدها، قبل أن يفقدها، ويفشل في العثور عليها، ويكتشف أنّ مكتبة أرسطو أغلقت منذ زمن طويل. فهل ما يحدث هو الحلم؟ لا شيء يشي بذلك. كلّ ما يعيشه فابريس في يومه الطويل، هو مصادفات طبيعيّة تحدث لمن يعود إلى مدينته بعد غياب، ما يجعل كلّ الأحداث التالية تكتسي حلّة الواقعية، ليخوض مانغويل من خلالها في العمق النفسي والذهني لبطله، راوياً لقارئه تاريخاً كاملاً لبلاد عانت الإضطهاد، وعرفت الديكتاتوريّة. وشهدت التظاهرات، والاحتجاجات، والحروب، من دون الحاجة إلى رواية أحداث تتشابه مع مثيلاتها في أي مكان من العالم. هنا سيلتقي فابريس من يقول له: «على الأقل في أوروبا لا يشوّهون صروحهم الوطنية بشعارات سياسية». عبارة يمكن أن يسمعها أيّ شخص يعيش في إحدى دول العالم الثالث عشرات المرات في اليوم، ولن يختلف وقعها عليه عن الحياد الذي تلقّاها به فابريس، الذي يعلّم جيّداً أنّ الحنين هو جرّاح التجميل الأمهر، ولكنه الذي يؤكّد لدى رؤيته لصرح المدينة الشهير أنّ «ثمّة أشياء لا يمكن حتى للحنين أن يحسّنها».
سيلتقي فابريس صديقه القديم تونيو، ويحصل على كتاب «الماضي» للبروفسور غروسمان، الذي درّسه التاريخ يوماً، وستخطئه مارتا، وتدّعي عدم معرفتها به حين يلقاها مصادفة، هو العائد فقط لحضور زفاف ابنها، قبل أن يصعد إلى الحافلة التي يقودها البروفسور غروسمان، والتي لا تتوقف قبل بلوغ محطتها الأخيرة. إنّ فابريس هنا اليوم، تقوده المصادفة لإعادة اكتشاف مدينته بكلّ تفصيلاتها، لكن ذلك لا يعني العودة، «تستلزم العودة التكرار، والزمن لا يسمح بالتكرار»، ولن يكون بإمكان فابريس أن يعود إلى يوم التظاهرة التي كان يخوضها مع رفاقه وهم ينطقون أشياء «تبدو الآن، بعد قرون، سخيفة حزينة توجع القلب».

يروي لقارئه تاريخاً كاملاً لبلاد عانت الاضطهاد، وعرفت الديكتاتوريّة
هناك حيث فقد مارتا، تحت وقع قمع قوّات حفظ النظام، والتي علم لاحقاً أنها تزوجت، وأنجبت ولداً، وذهبت إلى الجنوب «الذي لا يرجع منه أحد». غير أنّ حافلة غروسمان ستقوده ليلتقي الجميع، هناك، خارج المدينة، في الريف الهادئ، حيث يقيم مؤلّف القصص المصوّرة، وحيث ستخرج مارتا عن صمتها لتحاكمه على هروبه.
يخرج مانغويل في «عودة» عن أسلوب السرد الحكائي، ويبني روايته بعيداً عن منطق البدايات والنهايات، متقناً احترام نضج قارئه في البحث عن أسباب حدوث الأشياء، لا عمّن يخبره الحكاية. وهنا يجنح مانغويل، الذي أمضى سنوات من مراهقته يعمل قارئاً لدى بورخيس، نحو كتابة الواقع بحلّة الحلم، ليغدو الأثر البورخيسي واضحاً في «عودة»، حيث الذاكرة خليط من المكان والزمان، يتداخلان بعيداً عن المنطق، وكأنّ فابريس يعود ليحاكم نفسه، متذرّعاً بعرسٍ لم يكن مانغويل معنيّاً بحدوثه، كما لو أنه يطبّق مقولة غروسمان «الماضي ليس سوى ابتكار للذاكرة يتوق إلى الديمومة وأن نعتبره أمراً ثابتاً». وبذلك لن يكون القارئ معنياً بهل ما يرويه مانغويل وقع حقاً، أم أنّها ذاكرة فابريس انفلشت أمامه بينما هو جالس في شقته الصغيرة في روما، أمام الإطلالة الساحرة، ليعيد ترتيب الأحداث وفق منطقه الزمنيّ الخاص.