خالد صاغيّةاختار النائب وليد جنبلاط ذكرى استشهاد الصحافي والمؤرّخ سمير قصير ليشنّ هجوماً على «بعض المثقّفين الآخرين الذين ينظّرون للثورة، من المتمركسين إلى المتأسلمين». ليس واضحاً كيف تمكّن البيك الاشتراكي من استخدام ذكرى صحافيّ اتّسم بثورته الدائمة، لشتم المنظّرين للثورة.
فقد تكون إحدى السمات الأساسيّة لسمير قصير أنّه، بعكس الكثير من زملائه الصحافيّين والأكاديميّين، لم يختر لنفسه موقع المثقّف النقدي الحيادي. كان من ذاك الصنف الذي يعرف أنّ على المثقّف أن يختار جيّداً موقعه السياسي، وأن يدافع عن هذا الموقع، من دون أن يفقد حسّه النقدي تجاه الجالسين معه في الخندق نفسه.
هكذا لم تقلّل حماسة سمير قصير لانتفاضة الاستقلال من غيظه وضيقه من الشعارات العنصريّة التي رُفعت خلال تلك الانتفاضة. ولم تُعمِه حماسة الخطباء عن التحذير من اللحظة التي سينقلب فيها القادة على أحلام المنتفضين. لقد كان شريكاً في صناعة تلك الانتفاضة، ولم يمنعه ذلك من انتقاد جماهيرها حيناً وقادتها حيناً آخر، إلى أن كتب مقالته «انتفاضة في الانتفاضة» التي وجّه فيها انتقادات إلى قادة في قوى 14 آذار لا يحسنون إلا اللهاث وراء المكاسب الضيّقة.
لكنّ ذلك لم يدعُ سمير إلى الخروج من ملعب 14 آذار. فقد كان يعرف أيضاً أنّ المثقّف لا يختار موقعه السياسي في الفراغ، في فضاء من الأفكار والمبادئ المفصولة عن الزمان والمكان، بل في لحظة تاريخيّة معيّنة، ووسط موازين قوى محدّدة. اختار سمير خندقه في تلك اللحظة، وكثيرون من الرفاق اليساريّين انتقدوا مشاركة فصيل يساريّ ومثقّف يساري في «ثورة الأرز». لكنّ سمير عرف كيف يصنع لليسار موقعاً وموقفاً وقيمة إضافيّة داخل تحالف هجين كتحالف قوى 14 آذار.
قد يكون هذا هو بالضبط الدور الذي لم يحسن تأديته التيّار الذي تركه سمير قصير وراءه. فقد أخفق اليسار الديموقراطي في إضفاء أي معنى على وجوده ضمن حلف الأكثرية في لبنان. لم تكن المشكلة، كما صوّرها خصومه من أهل اليسار، في التحاق تيار يساري «بركب الإمبريالية»، بل في ضآلة التأثير الذي حاول هذا التيار أن يقوم به داخل المركب الذي اختاره لنفسه.
فلم يحسن ذاك اليسار استخدام توجّهاته اللاطائفية داخل تجمّع من القوى الممعنة في ممارسة أبشع أشكال التحريض المذهبي. ولم يحسن رفع لواء القضايا الاجتماعية والاقتصادية للتخفيف من مغالاة بعض الحلفاء في تطبيق السياسات المنحازة طبقياً. ولم يحسن الدعوة إلى عدم اختزال التيار السيادي إلى تيار معادٍ لسوريا حصراً. ولم يحسن ضبط النزعات العنصرية. من سوء الحظّ، لم يخفق اليسار الديموقراطي وحسب، بل دفع اللهاث وراء المراكز بعض قادته للمزايدة على أمراء الطوائف في لبنان.
كان سمير قصير حادّاً وحازماً في دفاعه عن التقدّم وقيم التنوير، إلا أنّه لم ينظر ولا مرّة إلى الإسلاميّين في لبنان كجسم غريب، بعكس كثير من المثقفين الذين يرفضون حتى معاملة حزب الله وسواه من الحركات الإسلامية كلاعب سياسي. كان قصير يدرك أنّ هؤلاء هم جزء من أهله وشعبه، وأنّه مهما بلغت حدّة الانقسام، يبقَ اللقاء معهم جزءاً من مسؤوليّة تقع على عاتق الجميع.
مرّة أخرى، لم يجد سمير من يكمل طريقه هذا داخل قوى 14 آذار، باستثناء أصوات خفيضة عبثاً تحاول ألا يبقى سمير وحيداً في حديقة، وسط المدينة التي أحبّها حتّى الموت.