خالد صاغيّةقبل مجيئها إلى لبنان، زارت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إسرائيل. لم يعر أحد اهتماماً لتلك الزيارة التي تعاطت معها وسائل الإعلام الإسرائيليّة ببرودة تامّة. حتّى تصريحات رايس المعترضة على السياسة الاستيطانيّة لم تثر ردود فعل غاضبة، وهي التي كان يمكن لها ـــــ في ظروف أخرى ـــــ أن تخلق أزمة دبلوماسيّة بين البلدين، كما رأى أحد المعلّقين الإسرائيليّين. فَرَايس التي باتت أشبه بـ«بطّة ميتة»، بحسب «جيروزاليم بوست»، تستعدّ لمغادرة منصبها والتفرّغ للعمل الأكاديمي.
في بيروت، يبدو المشهد مختلفاً. ثمّة رئيس للجمهورية منتخب حديثاً بحاجة لأي دعم خارجيّ ليثبت سلطته وسط طوائف متحلّقة حول زعمائها، ما يجعله مجبراً على البحث عن سطوة وشعبيّة في خرم الإبرة. وثمّة رئيس مكلّف بتأليف حكومة ما زالت ولادتها متعثّرة. قضى فترته الأخيرة في السرايا أشبه بأسير، وعاد إلى رئاسة الحكومة من باب النكاية ليس إلا. كان يستقبل رايس في السابق لتشدّ من أزر فريقه وترفع معنويّاته. يعانقها كمن يعانق أمّاً جاءت تنقذ طفلها من ورطة. يعرف السنيورة أنّ المشهد لم يعد هو نفسه اليوم. فالحكومة التي يسعى لتأليفها لا يتمثّل حزب اللّه فيها وحسب (وهو المنظّمة الإرهابيّة وفقاً للتصنيفات الأميركيّة)، إنّما يمتلك الحزب وحلفاؤه فيها الثلث المعطّل، بعد اتفاق عقد في الدوحة، وأيّدته قسراً أو عن طيب خاطر سائر العواصم.
ماذا جاءت رايس تفعل في لبنان؟
أجاءت تعتذر لأنّها تستعدّ لترك منصبها من دون أن تحقّق ما وعدت به من شرق أوسط جديد؟
أجاءت تعتذر لأنّ مئات آلاف الضحايا سقطوا في المنطقة تحت شعارات الديموقراطية ونشر الحرية التي وُضعت على الرفّ بانتظار قرن مقبل؟
أجاءت تعتذر لأنّها أهملت موازين القوى الشعبية والعسكرية، فورّطت حلفاءها في لبنان وفلسطين بمواقف ما زالوا يدفعون ثمنها الباهظ؟
أجاءت تعتذر لأنّها أشعلت الجنوب، ودمّرت أجزاء من الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، من دون أن يسفر المخاض الذي دعت لتحمّل آلامه، عن ولادة شرق أوسط جديد؟
لا. لم تعتذر رايس. جاءت، على ما يبدو، في مهمّة/ مغامرة جديدة عنوانها المُعلَن «مزارع شبعا»، وعنوانها المُضمَر منع الحلفاء المخلصين من تقديم مزيد من التنازلات. فحذارِ أن يصدّق الفريق الحليف خطابه حول دولة المؤسسات. لن يكون تأليف الحكومة، ولا إجراء الانتخابات النيابية، أكثر أهميّة من القدرة على الحدّ من الخسائر.
ككثير من الإدارات الأميركيّة السابقة، تعرب الإدارة الحاليّة عن نيّتها المساهمة في حلّ النزاع في الشرق الأوسط. لكنّ ما يجب أن تكون هذه الإدارة قد لاحظته هو أنّ كلّ المسارات المقفلة التي تحرّكت في الآونة الأخيرة في الشرق الأوسط، قد فعلت ذلك إمّا رغماً عن الإرادة الأميركية، وإمّا من دون تدخّلها. إنّ هذه الحقيقة وحدها كافية للإدراك بأنّ تحرّك رايس لا يندرج ضمن إطار تفعيل مفاوضات السلام، أو دعم اتفاق الدوحة.
بكلام آخر، لسنا اليوم أمام أُمّ تشدّ من عزائم ابنها، بل أمام غاوية تحضّ على مغامرة جديدة. والحلفاء اللبنانيون أمام خيارين: إمّا الدخول في مغامرة جديدة بقيادة أميركية ـــــ سعودية، وإمّا العودة إلى المجتمع اللبناني للبحث عن سبل لتدعيم الاتفاق بين مكوّناته. لقد قامت كلّ من الموالاة والمعارضة بخطوات رعناء كثيرة في السنوات الثلاث الماضية. الأجدى ألّا ينقاد أيّ منهما اليوم وراء «بطّة» يعرف الجميع أنّها ستخرج من الحلبة عمّا قريب.