أنسي الحاج
تَعِبْنا
يوم الإضراب دارت كاميرا ال. بي. سي. على ناس لم يغلقوا متاجرهم تسألهم لماذا لم يُضربوا فأجابوا: تعبنا.
ومن المؤكّد أن كثيرين جدّاً ممّن أغلقوا، هم أيضاً من فئة الذين تعبوا، ومعروف لماذا «تضامنوا».
بشيء من التبسيط يمكن فرز اللبنانيين، كما أسفر عنهم يوم الإضراب السياسي لا العمالي في 7 أيار، بين ناس تعبوا وناس لم يتعبوا. الذين لم يتعبوا هم قادة الحروب الأهليّة الجدد وأدواتهم من فتية الشوارع. الذين تعبوا هم الآخرون، والأشدّ فقراً هم بينهم، وإن لم تُصدّق سيّدي المناضل فاسأل حولك، ولكنْ اسألْ مَن لا تضع مسدّسك في صدغه.
أحدهم قال للتلفزيون: «إن زادوا الحد الأدنى كان به وإلّا منعيش متل ما عايشين». شخص لم يتشبَّع بلينين، ولم يفهم على ماذا اعتمدت الحكومة لتتخذ قراراتها الهمايونيّة الأخيرة بحقّ «حزب الله» وهي تعلم أنّها عاجزة عن تطبيقها. لبناني فقير لم يعد مغشوشاً بغضب الغضبانين وحجارة الثوّار. ليس بينه وبين الهاوية غير ابتسامته. وهو أقوى من الدهر لا لأنه شاطر بل لأن روحه تَمْسَحَتْ من فرط الفضائح ولأنّه يعرف أن الإنسان مهما قال لن ينجو. هذا رجل صالح بلا تمرّد ولا استسلام، بل بحالة ثالثة هي الاستخفاف. ليس الطرب ما يستخفّه بل القرف من الكذّابين، قَرَف متسامح يسنده الرزق الذي على الله.
رزق لا تعرف كيف يتدبّر. يتدبّر. مثل حكاية العصفور الذي يتدبّر رزقه بلا قلق. ولا يموت من الجوع. لا يموت من الجوع غير الجائع الآخر، ذلك الذي لا شيء يُشبعه، لا مال قارون ولا سلطة القيصر.
تعبانون ومُنَشَّطون.
ليتنا نستطيع أن نُقَسّم البلاد بين تعبانين ومُنَشَّطين، وليأخذ معهم المُنَشَّطون أصواتهم وأصواتنا أيضاً، مَن يحتاج بعد إلى غير السكوت؟


«تكثّفت الاتصالات»
حتّى الخوف صار يُزهّق. مَن يسمع في الأخبار كيف «تكثّفت الاتصالات»؟ و«نشطت الزيارات»؟ وكيف أدلى مَن أدلى بتصريح «علّق» فيه؟ وكيف شنَّ مَن شنَّ وخَرَج مَن خرج دون الإدلاء بتصريح؟ حافلة. دائماً. أذكر، على سبيل الفكاهة السوداء، كيف أن إحدى الصحف الرصينة ظلّت تكتب يوميّاً في صدر صفحتها الأولى «تكثّفت الاتصالات خلال الأربع والعشرين الساعة الماضية لإيجاد حلّ بات إعلانه وشيكاً خلال الثماني والأربعين ساعة المقبلة»، وذلك منذ 13 نيسان 1975 حتى إخراج العماد عون من قصر بعبدا في 13 تشرين الأول 1990 دون انقطاع. مَن لا يصدّق بإمكانه مراجعة الأرشيف. تفاؤل يُشيّب شعر الرأس. بنج عمومي. ما زالت الاتصالات مستمرة ومكثّفة. مات مَن مات من الزعماء والدراويش والصحافيين كذلك ولا تزال اللغة منتصبة بجثّتها الغرّاء. ونشرات الأخبار ألمع ما فيها إنشاؤها والباقي أضجر من الفضيلة. أعان الله الأستاذ جورج غانم، لا أحد يعرف معاناته وهو يحاول أن يقرأ بمنتهى الجديّة ما تحتقره روحه. لا أعرف عن سائر المذيعين. أشعر بأن بعضهم يظنّ نفسه بطل الأخبار لا مذيعها.
لا يمنع أن الصبايا اللواتي غطّينَ الحوادث الأخيرة كنَّ مفاجأة المفاجآت في الحضور ورباطة الجأش. أعانهنَّ الله. المرأة تتعاطى مع الخطر بشكل يخجل الرجل. وتتعاطى مع الخبر بشكل يُخجل الخبر. ليت إدارات التلفزيونات والصحف تكافئ هذه الفرق من الفدائيّات.
... وأعان المُعين اللبنانيين، ولا سيما الشيعة الذين ضاعت عليهم إبّان ذروة الحرمان ولا نريد أن تعود وتضيع عليهم وهم في ذروة القوّة.


امرأة نائمة
امرأة نائمة هي امرأة مجرّدة من ثلاثة أرباع سحرها. الربع خلْقة، والباقي صنعة. النوم، بأيّ شكل كان، يعيد الأمور إلى مصادرها الخرساء، فلا يُعرف موقف الراقد ولا رغبته. لا بدّ للجسد الأنثوي من «إخراج» يُبَلْور العري، وإلّا تراجعت ظلال هذا العري.
أحياناً، طريقة سَير المرأة في الشارع تقوم مقام التبرّج. الحركة. الملابس. تَموّج الشعر. انطباع ينبعث منها بأنّها كفريسة محتملة تخوض عباب الصيّادين (ولو كان العكس صحيحاً). كلّ شيء عدا جمود الرقاد الفاتر كالخشب، المسترخي كالصحراء.
امرأة صاحية تقدّم، مع ذاتها، تاريخ مجتمعها. تحتشد فيها التقاليد والممنوعات والألعاب، تحوّلها هدفاً موضوعيّاً لا ذاتيّ فيه إلّا فرادات جاذبيّتها. وحتّى هذه، حين نفصّلها، نرى أنها رموز.


عابرات
ليس فقط أنَّ الذين حسبتَ أنك أحببتَهم لم تكن «تحبّهم»، بل إن اللواتي استندتْ ذكرياتك إلى ثقتك بأنهنّ أحببنكَ قد وَهَبْنَكَ ما وهبتَ سواهنّ: لقمة.

«يجب أن تصبح الزيجات أقلّ ممّا هي بكثير! طوفوا بالمدن الكبيرة واسألوا أنفسكم: هل يحقّ لهذه الجموع أن تتناسل!؟ (...) لنتوقّف عن النظريّات العاطفيّة حيال البغاء! يجب أن لا يكون تضحية: البغايا صادقات، لا يتصرّفنَ إلّا لمتعتهنّ، ولا يُفلّسنَ الرجل بفرضهن «روابط الزواج عليه». (نيتشه ـــــ «إرادة القوّة»).

«قد أُعطيهم السماء في قصيدة
ولن يفكّر احد منهم في الصلاة لأجلي». (نوفاليس).

كان ذلك الفنان فريسةَ عبقريّته، تزداد افتراساً له بمقدار عدم وعيه لوجودها فيه.

حتّى مَ تتغذّى المخيّلة ممّا يَقْتل صاحبها؟