خالد صاغيّةلم يكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحده ما خلّف فراغاً في البلاد، لم يملأه أحد. شاحنات الجيش السوري التي عبرت طريق المصنع باتّجاه دمشق تركت هي الأخرى فراغاً، لكن من نوع مختلف. وليس المقصود هنا الفراغ الأمني، بل أساساً الفراغ في إدارة خلافات اللبنانيّين وتقسيم العمل بين طوائفهم. فالنظام السوري الذي فرض سيطرته على البلاد طيلة 15 عاماً، أدّى دوراً تحكيميّاً (وإن غير نزيه) بين الطوائف المتنازعة دون جدوى على وراثة الهيمنة المارونيّة التي انتهت مع الحرب الأهليّة. ولم يكن لاتّفاق الطائف، كما نعرفه، أن ينظّم علاقات اللبنانيين من دون الدور السوري.
انتهت الحقبة السوريّة على المشهد الآتي: طائفة سنّية تحاول بعد اغتيال زعيمها أداء الدور الذي أخطأ الحريري الأب حين لم ينتدب نفسه لأدائه، أي حمْل مشروع سياسي بحجم الوطن كلّه (فضّل آنذاك حمْل مشروع اقتصادي لم يسلم الوطن كلّه من آليّات نهبه المنظّم). وقد سُلّم النائب سعد الدين الحريري زعامة الأكثريّة النيابيّة كدلالة رمزية على الدور القياديّ الجديد للطائفة. أمّا الطائفة الشيعيّة، فاتّخذت وضعاً دفاعياً محاولةً الحفاظ على مكتسبات الحقبة الماضية، وهي التي عرفت سابقاً حرماناً مديداً. وقد زاد حصار سائر الطوائف لها من تقوقعها على نفسها، قبل أن تفتح لها وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر أفقاً ما لبثت أن استخدمته بعد حرب تمّوز للانتقال إلى وضع هجوميّ. في هذه الأثناء، كانت الطائفة المسيحيّة تبحث عن مُلك ضائع بعدما نزع «الطائف» صلاحيات رئاسة الجمهورية، واستكملت القبضة السورية الحرب على زعمائها. لكنّ ما يشكّل حلماً بالنسبة إلى المسيحيّين، كان الكابوس بعينه للزعامة السنّية الناشئة. استمرّ حصار ميشال عون، إلى أن فتح ثغرات ما لبثت أن تحوّلت أبواباً في مار مخايل. أمّا الطائفة الدرزية الصغيرة، فلم تجد إلا في لعب زعيمها على الحبال، طريقةً في حفظ موقع لها وسط هذه الأمواج الهادرة.
حدث ذلك كلّه على رقعة جغرافيّة صغيرة، لكن في منطقة كثُر فيها اشتعال البراكين. الحُكم بالواسطة لم يعد هوايةً مفضّلة لدى الإدارة الأميركيّة التي حرّكت جيشها باتّجاه الشرق الأوسط الذي أرادت أن تصنع منه شرقاً جديداً، بقوّة الحديد والنار. ثمّة من ركب قطار الأمبراطوريّة، وثمّة من ادّعى الركوب، وثمّة من قرّر المواجهة.
من الصعب اختزال الأزمة اللبنانيّة بالانقسام حول المشروع الأميركي وتعقيداته السوريّة والإيرانيّة. ومن الصعب اختزالها بعلاقات الطوائف. غير أنّ المؤكّد هو أنّ الذهاب إلى الحوار في الدوحة لن يعني الكثير، ما لم يكن واضحاً للجميع أنّ المشهد الإقليمي والدولي الراعي لاتفاق الطائف قد تبدّل كليّاً، وأنّ التعقيدات الطائفيّة الداخليّة تبدّلت هي الأخرى عمّا كانت عليه عشيّة انتهاء الحرب الأهليّة.
لذلك، يمكن لمن يريد أن يتلهّى بالثلاث عشرات والرئيس التوافقي أن يفعل ذلك. لكنّ الأجدى العودة من الدوحة باتّفاق طائف جديد.