خالد صاغيّةالحشد العربي والدولي الذي حضر جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ينبغي ألا يغشّ أحداً، كأن يعود اللبنانيّون إلى ممارسة عاداتهم في دفع الأمور إلى حافّة الهاوية، والتفرّج عن بُعد بحجّة أنّ اتّفاقاً عربياً ودولياً يحمي السلم الأهلي. ينبغي ألّا تدفعنا المبايعة العربية والدولية للرئيس المنتخب إلى التغافل عن طبيعة اتّفاق الدوحة الهشّة والمؤقّتة، والتي ستبقى كذلك ما لم تلحق به مصالحة لبنانية ــــ لبنانية أكثر عمقاً من «الإصلاحات» السطحيّة التي أقرّت في الدوحة.
ربّما كان لهذا الحشد في البرلمان أن يعني ضدّ ظاهره، نوعاً من «الكاموفلاج» الذي يُخفي حقيقة أنّ الدعم الدولي الحالي غير كافٍ وحده لضمان تنفيذ الاتّفاق. لقد سبق لنا أن خبرنا اتّفاق الطائف الذي وُقِّع بختم سوري ــــ سعودي ــــ أميركي. لكنّ الطائف، لمن لا يذكر، لم ينهِ الحرب الأهليّة. ولم تُطوَ الحرب نهائيّاً إلا بعدما تفاهمت الأطراف الثلاثة على أولويّات المرحلة المقبلة في منطقة الشرق الأوسط. أمّنت سوريا والسعودية ودول أخرى غطاءً عربياً لغزو العراق آنذاك، وقبضت كلّ منهما أثماناً مقابل ذلك. النظام العراقي أُخرج من المعادلة اللبنانية نهائياً، بعدما كان يمدّ أطرافاً عدّة بالمال والسلاح. لقد فُتحت المنطقة أمام مرحلة جديدة، حُدّدت فيها صلاحيّات اللاعبين.
أمّا اليوم، ورغم تفاهمات ضمنيّة تُعقد بين إيران والولايات المتّحدة الأميركية، فإنّ الصراع في المنطقة ما زال مفتوحاً، وما زال المدّ والجزر حاضرين في لعبة توزيع الأدوار. لقد تلقّت المملكة العربية السعودية ضربة قاسية في لبنان لن تواجهها بالسكوت طويلاً، وقد تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على ما تعدّه تحقيقاً لمطالب معارضة قريبة من سوريا وإيران. عبارة اللاغالب واللامغلوب لا تنطبّق على لبنان بقدر ما تنطبق على المنطقة، لأنّ الجولات لا تزال مفتوحة فيها.
لقد تجسّدت التفاهمات الدولية في لبنان ما بعد الطائف بشخص رفيق الحريري. فنسج ابن النظام السعودي المدلّل علاقات ممتازة مع الثلاثي السوري الذي تسلّم الملف اللبناني (الشهابي ــــ خدّام ــــ كنعان)، ونالت توجّهاته السياسية والاقتصادية رضى الأميركيّين. أمسك الحريري برئاسة مجلس الوزراء لفترة طويلة، وقتَ أصبح هذا الموقع هو الأقوى في الجمهورية بعدما عدّل الطائف صلاحيّات الرئاسات. أمّا اليوم، فيتجسّد اتفاق الدوحة بشخص العماد ميشال سليمان الذي يأتي ضعيفاً إلى موقع ضعيف. فهو، رئيساً للجمهورية، لا يمتلك الكثير من الصلاحيات. وشريكاً في الحكومة، لا يملك إلا ثلاثة وزراء. وإذا كان موقع رفيق الحريري عرضة للإضعاف كلّما جرى تجاذب سوري ــــ أميركي، فبإمكاننا أن نتخيّل ما سيؤول إليه موقع سليمان إذا عادت التجاذبات بين الأطراف الراعية لاتفاق الدوحة.
لقد توقّفت الحروب الصغيرة في بيروت والجبل بفضل انعدام التوازن في القوّة بين طرف مدرّب ومجهّز قرّر في لحظة استخدام جبروته في الداخل، وطرف آخر يبدو تسليحه أشبه بتدريب الهواة. وهذا لا يؤسّس بالضرورة لسلم مستديم كما حدث في الطائف بعدما أُنهكت الأطراف اللبنانية المتحاربة، سواء من خلال حروب الإلغاء والتحرير في المناطق الشرقية، أو من خلال معارك أمل ــــ حزب الله.
لا بدّ من صياغة علاقات لبنانية ــــ لبنانية مختلفة، تتعدّى تقسيم الزواريب خلال الانتخابات. فمهما جرى التواطؤ على النفي، جاء اتفاق الدوحة بعد تحقيق طرف انتصاراً عسكرياً على طرف آخر. ومن فاته وجوم النائب سعد الدين الحريري في الدوحة، كان عليه أن ينظر إلى وجه سعود الفيصل كلّما ذُكر اسم دولة قطر في المجلس النيابي اللبناني.