أنسي الحاج
معجزة معلّقة
ما إن يكتشف الواحدُ الآخر حتّى تبدأ، مع النُور، المتاهة... يمنحكَ الآخرُ هدوءاً ويسلبك هدوءاً. الثقة والهشاشة. صِدامُ كوكبين. ينتزعكَ من وحشة ويأسر فيكَ راحة. ما إن يكتشف الواحدُ الآخر حتّى يُطلّ الأمل على صهوة اليأس واليأس على صهوة الأمل.
الاكتشاف قليل الاكتشاف، فهو أيضاً تَذَكُّر أو إعادةُ نظر. معرفة منسيّة. شيءٌ من مدّخرات مطمورة أو ثأرُ جريمةٍ مغمورة... غير معروف تأثيرُ الاكتشاف الاكتشاف، الذي لا ماضي له في حياة المكتَشِف. ربّما يَصْعَق وربّما على النقيض لا يستوقف، فلا يلفتكَ الجديد التامّ بل طيفٌ يرتدي ملابس جديدة. لا جديد تحت الشمس بل حنين أو ذكرى. وإذ يَشْرَع الرائد في التآلف مع اكتشافه يبدأ انحدار المساء.
في تقاليد الأفارقة أنّه كلّما حلّ ضيقٌ بأحدهم هرعتْ إليه أرواح أجداده وأجداد أجداده إلى ما قبل بدء الزمان لِنَجْدَته ونصْرَته، فلا يكون وحيداً أبداً في الشدّة. ويبدو أن السود في أميركا استعانوا هذا المعتقد عهد الرقّ ليتحمّلوا ذلّهم كعبيد ثم ليقدروا على انتزاع حريّتهم ومساواتهم من البيض، على ما جاء في أحد الأفلام السينمائيّة. الوحدة ليست وحيدة والأحياء غير معزولين عن الموتى. والزمان جسد واحد متواصل يضحك من ساعات اليد والحائط ومن المواعيد والأعمار.
هل نقصد أن الدهشة، أيّة دهشة كانت، لا مبرّر لها في العمق وأن سببها رواسب طفولة لم تتفتّح بعد؟ وأنّها دهشة بالشكل لا بالأساس؟ ربّما، على قسوتها.
وفي الوقت نفسه يحمل هذا الافتراض التسليم برأي معاكس هو أنه لولا هذه الدهشة البلهاء أو شبه المصطنعة التي نشاغب بها الزمن، لمررنا بالحياة كالمومياءات.
الاكتشاف ليس اكتشافاً... إنه معجزة معلَّقة يجترحها الخوف.


الحياة المتسلسلة
التفكير «الأوّل» نادر وصاعق. قد يَشلّ. التفكير في الغالب تكرار. مثله الإعجاب والانبهار. المرّة الأولى إن لم تجرفها البراءة إلى الفشل، قد لا ينجو صاحبها من دمارها. الحياة، الحياة العاديّة المتسلسلة، مؤلّفة من المرّات الما بعد الأولى، من العادة والإدمان، وبعضهم يُسمّيها، خَفَراً، النضج والإخلاص.


كُحْلُ الأسف
سوف يظلّ هناك، أمطرتْ أو أشرقتْ، مَن يعتصره الأسف، ذات لحظة، لتفويته ذات لحظة.
أسف يعيد إلى الكائنات المعبورة اعتبار الوهم ــ وهو أجمل ما يُكحّل باطن القلب.


نَدَيان
الندى يروي الليل أبيض كالحليب، بقوّة اندفاع الماء المضطرم إلى العطشان المضطرم، وكلٌّ منهما أخفّ من الآخر.
الندى يروي الصباح باهتاً كالوظيفة، ولا يشدّ أحدهما إلى الآخر غيرُ وزن الأرض.


خرمشة
لا بدّ أن يكون هناك لذّة في مواصلة
هذا البحث الأعمى.
أنْ ينظّم المرء حياته بدقّة وهو على علم بأن لا معنى لهذا التنظيم ولا لهذه الحياة،
وأن يمضي في احتضان القيم والمبادئ وحتّى الذود عنها وهو على علم بأن باطلَ الأباطيلِ كلّ شيء باطل.
عناده؟
بحثاً عن ماذا، عن شيء؟ أيّ شيء؟
أليس بالأحرى مجرّد طاقة تستهلك
نفسها؟
حياة تقذف حالها بلا غاية، لا تبدأ ولا تنتهي، بل تندفع مثل قطعان الموج، لها لونٌ ولا تعرفه، لها طعمٌ ولا تعرفه، لا يَتْرك لها قانونها الطبيعي من هامشٍ غير ما تُسلّم لها به حَرَكَتُها المدفوعة من مجهول إلى معلوم ومن معلوم إلى مجهول تحت قبّة الهباء وبين قناطره.
يسعى الكائن، يسعى... وأقصى ما يبلغه خَرْمشة على طريق قبره.


شرّ، خير
الشتّام مُسالم والقاتل مهذَّب. غير الدموي عنيف والدمويّ هادئ. السينما بلورت هذا الفَرْق في كثير من أفلام الإجرام الحديثة. الشَتْم يفرّج الصدر، إنّه لغة ديموقراطيّة. سمّاه جان بول سارتر «لغة كونيّة». حذار مَن يَغلي ولا يَقْذف، إلاّ إذا كان مُنْحطّاً تماماً أو غفرانيّاً يقدّم جميع ما فيه من خدود للصفع.
بعضهم، مثل نيتشه وقبله ساد، ساوى بين الغَفور والمنحطّ: البراهمانيّة والمسيحيّة، بحسب الأول، تقودان إلى الانحلال والتفكّك، والفضيلة، بحسب الثاني، لا تستجلب لصاحبها غير العقاب. الشرّ، في نظر الاثنين، هو الضعف، ولا يجوز الخلط بين الشرّ والحقارة والخسّة، فالشرّ، بالأحرى عند نيتشه لا عند ساد، شُجاع حُرّ ناهضٌ ورائع.
التاريخ، على الأخص الحرب العالميّة الثانية، أظهر فظائع هذه النظريّة على الصعيد الأممي. دمويّاً وسياسياً، عَبْر ملايين القتلى ضحايا النازيّة وأعدائها، وعبر ديكتاتوريتَي هتلر وستالين. وأكثر ما أظهره التطبيق هو النشاز الفظّ بين الفكر والواقع: ستالين أجهز على الماركسيّة وهتلر شوّه فكرة التفوّق. وإلى جانب ملايين الضحايا عامت جثّة الفلسفة الانتي ــ أخلاقيّة (الأخلاق بالمفهوم الأفلاطوني ــ المسيحي ــ الآسيوي) فوق سطح الدماء. لقد قتل الزعماء مصادر وحيهم إمّا باغتصابها وإمّا بتحريفها وتشويهها. وأحياناً بتطبيقها الحَرفيّ، مع نسيان كون الفكر أمراً زئبقيّاً وقد يكون كلّ شيءٍ حرفيّاً إلاّ هو.
التجسيد هو المجازفة الكبرى. التطبيق دائماً ملوَّث.
لو كان الشرّ بالذكاء الذي يدّعيه لاستدرج الخير إلى احتلال جميع المراكز...


لآينشتاين
وقعت الصديقة في أوراقها على الملاحظة الآتية من أقوال آينشتاين:
«النظريّة، هي عندما نعرف كلّ شيء، ولا شيء يَعْمل. التطبيق، هو عندما يعمل كلّ شيء ولا أحد يعرف لماذا. هنا (في أميركا) جَمَعْنا النظريّة والتطبيق: لا شيء يعمل... ولا أحدَ يعرفُ لماذا!».