أنسي الحاجنَشَرَ أحد المواقع الالكترونيّة بياناً وقّعته 44 شخصيّة مسيحيّة تعتذر فيه «عن أعمال غير مبرّرة أدّت إلى سقوط ضحايا بريئة من إخواننا الفلسطينيين (...) هذا الأمر يؤلمنا ونودّ أن نعتذر عنه، سائلين الله أن يلهمنا التعويض ما أمكن عن كلّ ظلم اقترفناه». اعتذار ينسحب على الحروب التي اندلعت منذ 1975، وجاء، عشيّة ذكرى 13 نيسان، ردّاً بالمثل على بيان الاعتذار الفلسطيني من اللبنانيين الذي أذاعه قبل أسابيع السيّد عبّاس زكي.
على الصعيد الرسمي، البيان الفلسطيني أكثر أهميّة. على الصعيد الوجداني يأتي بيان الشخصيّات المسيحيّة، وبينهم مثقفون وأحبار وأحد وجوه القتال في مطالع الحروب، اختراقاً لتقاليد كثيفة من المفاخرة بالبطولات أو من غضّ النظر والتظاهر بالنسيان. والبيانان كلاهما شذوذ على قاعدة عربيّة عريقة لا اعتراف فيها بالخطأ وحيث الهزيمة نكسة، و«صمود» النظام أغلى من الأرض والناس والسيادة، وحيث كلّ شيء أوعى من العقل وأَلزم من الحقّ.
تعاملت الصحف مع البيان الفلسطيني بربع اهتمام ومع البيان اللبناني بعدم اهتمام، معطيةً برهاناً آخر على كونها تفضّل العَكَر والفتنة وتحتقر المسالمين.
ليس الأمر بجديد. إنه شأن جميع الهاربين من الضجر والذين يحترفون مهن التسلية، والصحافة منهم. الصفحات الأولى ميدان الإثارة، ولو لم يكن أنور السادات أنور السادات وزيارته لإسرائيل أكبر ضرب جنون أقدم عليه زعيم عربي أو غير عربي، لكان خبر زيارته قد نُشر في الصفحات الداخلية. فهو مبادرة مصالحة ومصافحة، أي عكس ما يُنبّه أعصاب «الإعلام» الذي لا يعيش ولا يعيش زبائنه المدمنون إلاّ بالسموم والفواجع.
لا تشفٍّ بهذا الكلام. كاتب هذه السطور هو أيضاً من هؤلاء الزبائن ومن أولئك المحترفين. ولكنّها مجرّد ملاحظة حول واقع تنتصر فيه الساديّة على الرحمة انتصاراً يوميّاً وعالميّاً ومسلّماً به كالهواء والماء.
للمناسبة، ودون الالتفات إلى مقدار اهتمام الإعلام، لماذا لا يعتذر سائر شركاء الحرب بعضهم من بعض والجميع من الشعب؟ في هذا أيضاً كان السيّد وليد جنبلاط السبّاق، لا مرّة ومرّتين بل مراراً وتكراراً. وفي المقابل لم نلمس أيّة تباشير من هذا النوع لدى زعماء الحرب الآخرين، وجلّ ما نسمعه هو أنّهم «لا يعتقدون» أن أحداً يريد حرباً أهليّة جديدة، وفي الوقت ذاته يزمجر كلّ منهم متوعّداً بأن الخصوم «لن يمرّوا» وبأنّه على كل حال جاهز «لكلّ الاحتمالات».
إلى أيّ حدّ يتحمّل الإعلام المسؤوليّة عن الواقع السياسي؟ في النظام الليبرالي، إلى حدّ بعيد. هنا تنتفي حجّة القمع وتسود شريعة الإثارة والربح، فضلاً عن التحزّب والرشوة. أي إن الاعتماد هو على «الأخلاق». إلى أيّ حدّ يبلغ حجم الأخلاق في المهن الإعلاميّة؟ إلى أيّ حدّ يبلغ حجم الأخلاق في أيّة مهنة تتّصل بالجماهير؟ وتتربّص بها (أو هي التي تتربّص) إغراءات الوجاهة والسلطة والمال؟
دون أن يخاطر الإعلام بحريّته يستطيع أن يكون حائطاً أو حاجزاً مانعاً للسقوط في الهاوية. يستطيع ذلك لا بل هو يفعله وفي أشدّ المجتمعات الغربيّة ليبراليّة ورأسماليّة «متوحّشة».
فالتوحّش هناك، للمفارقة، يعتمد في أحد أركانه على احترام الحياة البشريّة وتقديس الحقيقة، والإنسان في مجتمعاتنا حائر بين أن يكون لصّاً أو ضحيّة، يسوسه ويسوده إرهابيون أو محتالون.
يبقى على الإعلام، ولا سيما الصحافة المكتوبة، أن تولّد لنفسها، إنْ هي انتهجت دروب الصدق ومحاذرة الفتنة والترفّع عن إعارة الذات إلى المستأجرين، أساليب جديدة في اجتذاب
القارئ.
الإنسان بحاجة إلى فِتَن تلهب خياله الخلاّق لا إلى فتن دمويّة تلتهمه بينما يظنّ أنه يلتهم قراءتها. والقارئ بحاجة إلى غذاء روحي لا إلى خبراء تضليل وبغضاء وقَتْل. نزعات الهدم والتذاذ الإيلام كانت وستبقى حيّة في الإنسان، ويتوقّف على التثقيف ــ والصحافة مبدئيّاً أداة تثقيف ــ أن يحرّضها على الكشف النفسي والإبداع الشعري والفنّي والعلمي والعقلي، أو يدفعها كي تَسفُّ إلى مستنقعات التناحر ومهاوي
الانتحار.

اجلسْ وانظرْ
تَطَرُّفُ الجحيمِ أم نعاسُ الطهارة؟
اللسع أم الاسترخاء؟ رقاد الفراغ أم خلاعة الظلمات المؤرّقة؟
كَرْجَة الأيّام أم الأريج الأسود الذي يلفّ أساليب الهرب منها؟
أنتَ الذي ما زال يتمتّع بالوقت، اجلسْ وانظرْ: لم يكن هناك وقت بل سراب، حيناً بكامل توهّجه وحيناً متباعداً ومتباهتاً وفْق انحدار قوّة النظر إليه...

لث
بين الإرادة واللا إرادة يلبث موقف ثالث: الصمت. هو أيضاً مجال للإرادة أو الاستسلام ولكنّه يتميّز بالغموض، وربما بانتهازيّة تصهر الموقفين دون تورّط. الفلاسفة يتكلّمون والحكماء يصمتون. الفلاسفة سُذَّج والحكماء انتهازيّون.

لغز الفنّانة
في الماضي غالباً ما اختلطت صورة الفنّانة بالتحرّر الجنسي. لم تكن «العائلات» ترضى بـ«نزول» بناتهنّ إلى ميدان التمثيل أو الغناء أو الرقص، ومَن جازفنَ دفعنَ أثماناً باهظة. وحتّى استتب لهنّ رصيد الهيبة وانحسرت الشبهة السلوكيّة إلى طبقة «الأرتيستات» تحديداً، مع اختراقات، استلزم الأمر ظاهرات كاسرة مثل أم كلثوم وفاتن حمامة وفيروز، فانتقل المجتمع من نظرة إلى عكسها، وبعدما كان قد ذهب في الوَصْم إلى حدّ التدنيس ذهب في الاحترام إلى حدّ التقديس.
وتبقى شخصيّة الفنّانة، أيقونةً أو لحماً ودماً، لغزاً محجوباً عن الآخرين. فهنا المرأة امرأتان، بل أكثر، وأحياناً امرأة ورجل، بل أكثر وأبعد، في استثناء مهيب لا تعرف الطبيعة مثيلاً له بين سائر الكائنات.
وليس بعجيب أن تستعصي جوانب من اللغز على إدراك صاحبة اللغز نفسها.

تلك الجهة
تظلّ تحيط بالجهة الإروتيكيّة، ولو طرأت ظروف منافية لها، هالةٌ تُشاكِلُ بخارَ الغابة عند الفجر.

صورة
حين تريد أن تستحضر شخصاً تمنحك صورته أو ذكراه قوّة وتنعش روحك وتُخمد خوفك، لا تستحضر شخصاً عَمّر طويلاً، بل ذلك الذي عاش ساخراً مستهتراً ومات وهو يضحك.


ذَهّبي، ذَهّبي...

ترومُ الدُمْيَةَ ثم تَرمي إلى الذي فيها يحوّلك دُمْيَة...
يُضَحّى الحبُّ ولا يُضَحّى مقدارُ حَبّة من الخيال،
ولا من الحلم، مفترسكَ الدائم، باني أهدافك، أو حاملُكَ ومحمولكَ إلى الخضمّ الأبيض.
يا أوراق الشجر الصفراء لا ترحمي أرضاً، لا تَسْتثني تراباً، ذَهّبي، ذَهّبي، جمالُكِ المتساقط أحلى من نضارتك على الأغصان! الخريف بين أحضانكِ يختلج بفاكهة مجهولة، والشتاء يمور بشهواته الشاذّة الداكنة!
ملاكُ الرغبة يُقِلُّ النائمَ من المهد إلى المهد.