بيار أبي صعب«أنا أنتمي إلى عرق المضطهدين»، هكذا كان يعرّف بنفسه الشاعر المارتينيكي الذي قضى أوّل من أمس على حافة الخامسة والتسعين. إنّه إيميه سيزير الذي وصفه بطرك السرياليّة أندريه بروتون ذات يوم، بـ«النموذج المطلق للكرامة البشريّة». لقد مثّل طوال عقود ضميراً لشعوب العالم الثالث في نضالها ضد الاستعمار، وأشكال التمييز العنصري، وصولاً إلى نضالات السود في أميركا أيام الكفاح من أجل «الحقوق المدنيّة». تحوّل أسطورة في حياته، ورمزاً للحريّة التي منحها صوته، شاعراً تأثر بالسرياليّة، وكاتباً تمرّد على النمط الأوروبي، ومناضلاً أدّى دوراً أساسياً في جزيرته... الفرنسيّة.
شاعر فرنسي إذاً، ابن أستاذ المدرسة والخيّاطة المولود عام 1913 في إحدى جزر العبيد على الكاراييبي، وشاعر الزنوجة الذي قارع الاستعمار وآثاره حتى الرمق الأخير؟ لقد سارع إلى رثائه كبار السياسيين والقادة في المركز البعيد باريس: من زعيمة المعارضة الاشتراكيّة سيغولين رويال التي دعت إلى نقل رفاته إلى الـ «بانتيون» حيث يقبع كبار فرنسا عبر التاريخ... إلى رئيس الجمهوريّة الفرنسية نيكولا ساركوزي الذي أغلق سيزير بابه بوجهه في 2005، بسبب قانون تقدم به حين كان وزيراً للداخليّة، وينصّ أحد بنوده على إدخال مبدأ «الأثر الإيجابي للاستعمار» إلى الكتب المدرسيّة الفرنسيّة. لكن الشاعر اليساري عاد فاستقبل الوزير اليميني المتصلّب، في العام التالي، بعد عدوله عن تلك الفكرة الوقحة، وأهداه يومذاك نسخة من كتابه المرجعي «خطاب حول الاستعمار» (1955) الذي دخل مناهج البكالوريا. وسيكون ساركوزي في طليعة المشاركين في الجنازة الوطنيّة الضخمة التي تنظم للشاعر غداً الأحد في فور ــــ دو ــــ فرانس، ما اضطرّه إلى تأجيل موعد تلفزيوني مع الفرنسيين كان مقرراً مساء
الاثنين!
لنقل إن إيميه سيزير فرنسيّ الثقافة. في تلك اللغة كتب، فاحتضنت وحيه وكانت جوازه إلى العالم. تماماً مثل شاعر كبير آخر، داكن البشرة مثله، هو صديقه الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور (1906 ــــ 2001). جمعتهما مقاعد الدراسة الثانويّة في باريس الثلاثينات، ولم يفترقا منذ ذلك الوقت.
معاً أسسا جريدة «الطالب الأسود»، حيث اخترع سيزير مفهوم «الزنوجة» La négritude، كرد فعل صارخ على القمع الثقافي الذي مارسه النظام الاستعماري آنذاك على شعوب الأطراف، طامساً هويتها الأصليّة، وجذورها الأفريقيّة، بهدف الإمعان في استيعابها واستلابها. عمل صاحب «دفتر العودة إلى الأرض الأم» (1939) على إعادة اكتشاف الجذور الزنجيّة لأهل (الكاراييب). الفرق أن السنغال استقلّت عن فرنسا بفضل سنغور وإخوانه، وصار الأخير رئيس جمهوريّتها فأقام مع المستعمر السابق علاقات أخوّة جديدة متكافئة... فيما بقيت جزر الانتي فرنسيّة كما هي منذ أكثر من ثلاثة قرون (1635). عاد سيزير إلى أرضه الأم للتدريس (وكان فرانتز فانون بين تلامذته) ثم العمل السياسي، فأدّى عمدة فور ــــ دو ــــ فرانس (1945 ــــ 2001) ونائب المارتينيك (1945 ــــ 1993) دوراً في ضمّ جزر الانتي إلى الجمهوريّة، كمحافظة قائمة بذاتها، لوضع حد لأشكال التمييز والعنصريّة، وإعطاء أهله حقوق المواطن الفرنسي وامتيازاته.
من المارتينيك أطلق سيزير مجلّة Tropiques (مدارات) التي اصطدمت بإدارة فيشي المتواطئة مع الاحتلال النازي. وهنا كتب خريج «دار المعلمين العليا» في باريس مجموعاته الشعريّة، وأبرزها «الأسلحة العجائبيّة» (1946)، «شمس قطع عنقها» (1947)، و«جسد ضائع» (مع أعمال حفريّة لبيكاسو ــــ 1950)... كما كتب للمسرح، فكانت المواجهة مع الاستعمار مصدر وحيه الأوّل من «وخرست الكلاب» (1958) إلى «موسم في الكونغو» (1966) مروراً بـ«مأساة الملك كريستوف» (1963). وبعد اختلافه مع الحزب الشيوعي أيام الستالينيّة أسس «الحزب التقدمي المارتينيكي» (1958). فهل يبقى الآن في أرض أجداده، أم يترك باريس تستردّه بعد عمر من التمرّد، وتحنّطه بين عظمائها؟