أنسي الحاجيروي أوسكار وايلد أن المسيح، حين قرّر العودة إلى الناصرة، كانت المدينة قد ارتدت ثوباً جديداً من الفرح والضحك والغناء أوشك المسيح أن ينكرها بسببه، بعدما عرفها واعتادها مدينة حزينة باكية.
وفيما المسيح يسير في شوارع الناصرة شاهد عبيداً ينقلون باقات الزهر إلى أحد القصور، فلحق بهم ولم يلبث أن رأى في البهو الفخم رجلاً اصطبغت شفتاه بالنبيذ، فلمس المسيح كتفه وقال له:
ـــ لماذا تعيش هذه الحياة المترفة؟
فالتفت إليه الرجل ولمّا عرفه قال له:
ـــ لقد كنتُ أبرص وشفيتَني، فلماذا أحيا غير هذه الحياة؟
فخرج المسيح إلى الشارع وما كاد يسير بضع خطى حتّى رأى امرأة متبرّجة تنتعل حذاءً لؤلؤيّاً، يتبعها رجل يأكلها بنظراته. فاقترب المسيح من الرجل وسأله:
ـــ لمَ تَلْحق بهذه المرأة الضالّة وتأكلها بعينيك؟
فاستدار الرجل نحوه ولمّا عرفه أجابه:
ـــ كنتُ أعمى فأعدتَ إليّ البصر، فماذا تريدني أن أفعل بعينيّ إن لم أنظر بهما إلى جمال امرأة!؟
واقترب المسيح من المرأة قائلاً:
ـــ لماذا تسلكين طريق الرذيلة؟
فعرفته المرأة وأجابته:
ـــ هذا الطريق مفروش بالملذّات، وأنتَ غفرتَ لي يوماً كلّ خطاياي.
استبدّ الحزن بالمسيح، وهَمَّ بمغادرة المدينة، فإذا برجل يبكي في ركن من المقبرة، فدنا منه ولمس شعره بحنوّ وسأله مترفّقاً:
ـــ لماذا تبكي يا صاحبي؟
فرفع الرجل إليه عينيه، ولمّا عرفه أجابه:
ـــ كنتُ ميتاً فبعَثْتَني حيّاً، فلم أجد ما أصنعه غير البكاء...
هذه الحكاية أثبتها قدري قلعجي في مقال له عن وايلد نشرته مجلة «المكشوف» في عددها المؤرّخ أول نيسان 1940، تحت عنوان «أوسكار وايلد كما عرفه أندريه جيد». وأهداه قلعجي إلى مظفّر سلطان.
أعادت باريس قبل أسبوع نشر «أفكار» وايلد، أي شذراته، حسب اختيار جديد، وكانت مناسبة لتجديد الكلام في الصحف على صاحب «دوريان غراي»، و«من الأعماق».
أوسكار وايلد أَلْمعيّ فاتن ونرجسيّ مُشَرْقط، وجرأته في حياته الشخصيّة، والتي أودت به إلى السجن سنتين في بريطانيا تغيّرت بعدها مفاهيمه من أقصى الاستهتار والتحدي إلى أقصى الانكسار والشفقة، باتت في عداد الأساطير. لكنّ إعادة قراءته اليوم، وقد بهتت جميع الجرآت أمام فواقع الإباحيّات التي أفرغتها الصناعة والتجارة من مخزونها النفسي والخيالي، تُرَجّح رأي أندريه جيد عندما قال إن «وايلد ليس كاتباً كبيراً، إنّما هو رجل عاش حياة كبيرة، وكان كفلاسفة الإغريق لا يكتب بل يتحدّث». وهذا كان رأي وايلد في نفسه حين قال: «لقد أفرغتُ في حياتي كلّ عبقريّتي، ولكنّي لم أضع في مؤلّفاتي غير موهبتي».
ولعلّنا إن أنصفنا نجده في منزلة بين المنزلتين: فهو كحكاية النرجس والينبوع، النرجس يقول إنّه لم يرَ صورته أجمل ممّا رآها منعكسة في مياه الينبوع، والينبوع يقول، وقد مات النرجس: أوّاه! ما رأيتُ أجملَ من صورتي منعكسة في عينيه...


دعوة لوقف العمل

مصر، باكستان، السنغال، المكسيك، بوليفيا، الفيليبين، هايتي، الكاميرون، ساحل العاجل، وغيرها وغيرها ممّا هو مكتوم، مجتمعات يعصف بها إعصار الجوع. وتتوقّع دراسة للأمم المتحدة: «أكثر من مليار شخص يمكن أن يقعوا في أزمة مجاعة مزمنة من الآن إلى سنة 2025، أي 600 مليون شخص أكثر ممّا كان مرتقباً».
لا لنقصٍ في الغذاء بل «لضيق ذات اليد» كما كان يُقال في لغة مهذّبة تشفق على المُعْوَز من حدّتها أكثر ممّا تشفق عليه من حاله. الطعام لمَن يملكون ثمنه. مَن لا يملك، «الحقّ عليه»، كما سمعتُ خبيراً اقتصادياً يقول على الشاشة، «لأنّه لا يعمل».
ماذا على المرء أن يفعل أكثر من الكدح خمسين سنة وفي نهايتها لا يستطيع أن يتطبّب؟ ماذا يفعل أكثر من العمل في مهنتين أو ثلاث معاً؟ ماذا يفعل أكثر من حرمان أولاده التعليم ودفعهم إلى الشغل لتأمين مداخيل إضافية تعجز عن الإتيان بأكثر من ثمن طعامهم؟ تستطيع الطبقات الجديدة من المحرومين أن تفعل شيئاً واحداً لتغيير وضعها، هو الثورة عليه.
ولعلّ الثورة الفضلى تكون بما لم يفعله الفقراء ولا مرّة: لا زيادة العمل، بل التوقّف عن العمل.
ولا ضرورة للسؤال البديهي: ومن أين لهم حينئذٍ أن يأكلوا؟
سيأكلون، وسيأكلون أطيب وأفضل، عندما يكتشف الأرباب أن حاجتهم إلى «العبيد» أكبر من حاجة «العبيد» إليهم.


البساطة مختبئة
«الحقائق» تنجلي بعباراتها «البسيطة» كما تَظْهر الثمار من بين الغصون المتشابكة والأوراق المتكاثفة: يحتاج الأمر إلى غَطْس في الغابة وتجذيف.
تنجلي كما تَبْرق. مَنْ رأسُهُ ليس كسماء كانون الواطئة الداهمة الراعدة فوق البحر، فوق الجبل، قد تبقى يداه بلا حصاد مهما اجتهد. كلّ الخليقة بِنْت البرق. الموت هو ضجر الطبيعة.


على النفس
الكذب على النفس غير التمثيل على النفس. الأوّل علامة خوف، ضعف، الثاني تزييف في الوقت الأقدس. هل هناك أسخف من أن يمثّل المرء على نفسه عندما يختلي بها؟ العذر الوحيد هنا قد يكمن في مرض عقلي أو نفسيّ، ومع هذا تبقى الصورة على بشاعتها.
الأوّل من نوع: تُقْنع نفسك بأنّك شجاع من أجل اجتياز محنة، طريق موحش ليلاً، إلخ...
الثاني من نوع: حتى في الخلوة، في السرير، في كرسي الاعتراف، تتمسّك بأذيال الفخفخة، التَمَظْهُر، الوجاهة، إعطاء الوَهْرة...


تبادُل وَهْب لبنان
إذا أخذنا بمقياس الصدق لما وجدنا أصدق من الطائفيّين الذين تقول ألسنتهم ما يدور في قلوبهم. الآخرون، بمَن فيهم الأطيب نيّة، يداهنون، أو، في أفضل الأحوال، يلجمون أنفسهم.
حتّى العملاء المقتنعون بعمالتهم ليسوا في صدق الطائفي المسترسل في طائفيّته. إنّها عودة الرضيع إلى ثدي أمّه.
المطلوب هو العلماني وسط طائفته. وأكثر، هو السنّي الملحد، الشيعي الماركسي، الدرزي المتمرّد، الماروني المنعتق. الأمل هو أن يتكاثر هؤلاء المصلوبون حتّى يشكّلوا الطائفة الكبرى. إلى اليوم ما زالت كلّ طائفة تعطي الطوائف الأخرى مبرّرات تعصّبها. تَبادُل توفير الموت... وتبادل وَهْب الخارج أعضاء لبنان الحيّة.


الفائض
أرجو لكَ أن تكون من فئة الرابحين الذين يشعرون بالحاجة إلى تجيير ربحهم، والمتعافين الذين يتولّاهم جموح فوراً إلى «تحويل» تعافيهم. لا يدّخر الفائضَ غيرُ كامل البخل. الإنفاق هو انتصار الرابح والمتعافي. الإنفاق مزاج مَلَكيّ. الادّخار موقفُ انخداعٍ بالحياة وإفراطٌ في الانحدار بالنرجسيّة، في نوع عنّين وعانس وحاسد، من النرجسيّة.
الفائض من الصحّة، من المال، من النجاح... معطى للإنسان كي يَمتحن نشوتَيه: نشوة التبذير، ونشوة التوزيع...


وقوع
التركيز في الذات، حسناً، ولكن ماذا إن أبتِ الذات؟
ثمّة مَن يَكْرَههم حتّى الكره وترفضهم، بعد النور، الظلمة... الانسحاب من العالم الخارجي، حسناً، ولكنْ ماذا إن لم يَفْتَح بابَه العالم الداخلي أو، إذا فتحه، تبيّن للنازع إليه أنَّ داخله أشدّ هولاً من الخارج؟
ليست الغربة في اتجاه واحد ولا الغريبُ بغريبِ مكانٍ وحبيب مكانٍ آخر. والغربة ليست هي المشكلة، فكلّنا رفاق دروب، والفوارق في الأمزجة. أمّا الوقوع فلا هو من داخل ولا من خارج، بل من استنفاد آخر دُفعة من طاقات التأجيل.