أنسي الحاج< الأكبر
شيئاً فشيئاً يفقد اللبنانيّون رغبة الدفاع عن النفس. آخر الدروع يكاد يسقط تحت ضربات التقزيز والتيئيس المنهجيّة. بلاد تحكمها الأَوَنْطَة والإسفاف، وتُغذّي خصوماتها العمالة والإعلام، وأحياناً كلاهما واحد. الخَدَر، خَدَرُ التسمُّم، خَدَر الغروب، خَدَر الروح الدامعة، ينتشر ويتقدّم.
لم يُتَح لهذا الشعب في تاريخه أن يختار بين أفضلين بل دائماً بين أسوأين. لم يُتَح له ولا مرّة أن يكون شعباً واحداً أمام تحديّاته بل مجموعة قبائل يتحارب بها أولئك القابعون هانئين في سلامهم.
أتمنّى أن يكون كلامي مجرّد انعكاس لكآبتي وحدها. أن يفاجئنا صوت نبيٍّ ما في غد فيقول الخطاب الجامع ويفعل الفعل المنقذ. حتّى اللحظة أكبر شيء في لبنان هو قلب الشعب الذي يَخْتنق. هذه هي الحقيقة الوحيدة الأكيدة. والمدى التاريخي المتاح، نظريّاً، لولادة حركة خلاصيّة أو أبطال منقذين، لا يزال شاغراً كفراغ الأودية.
والناس جميعاً أصبحوا شهداء.
الناس الذين دفاترهم، بعد قلوبهم، مفتوحة لمَن يشاء... هل يجرؤ الحكّام والزعماء وموجّهو الرأي أن يفتحوا دفاترهم وحساباتهم أمام أحد؟


< نداء إلى التلفزيون
الذين يتحدّثون عن الأمل والإيمان، هل حديثهم يسبق نجاحهم في الحياة أم يليه؟
سؤال بعد السهرة التي عقدها الأستاذ مارسيل غانم على التلفزيون مع ثلاثة روّاد لبنانيين في اجتراح التفوّق صاروا من ليلها حديث الناس: سليم إده، صلاح بو رعد، ورامي علّيق. عيون قاومت مخرز اليأس وكَسَرَتْهُ، كلّ في حقل نشاطه، وجميع حقولهم يلتقي عند نبع الرجاء.
قوّة أخجلتْ كثيرين خانتهم القوّة. القوّة تلك، العاصية، المبتسمة، قوّة تحريك الحياة. في أيّام الرخاء يبدو الأقوياء هؤلاء مجرّد رجال أعمال، وقد نستخفّ بهم أو نمقتهم. وفي الشدائد يصبحون سَحَرَة.
لو صَمَدَ التلفزيون وتمكّن من حصر واجهاته شهرين فقط بأهل العزيمة والخَلْق متناسياً خبراء التفاهة والفتنة وعشّاق الظهور وعملاء الدول، لتوقّفت الهجرة وتَغَيّر نَبْضُ المجتمع.
العَظَمة ليست في السلطة بل في مغالبة نشوة الغَرَق. دورٌ ضخم يستطيع التلفزيون أكثر من أيّة وسيلة أخرى أن يضطلع به.
قبل ذلك يجب تغيير التلفزيون.


< بلا موقف
أجدني في بعض الحالات بلا موقف. مرّة تهرّباً ومرّة حيرة. التهرّب، حتّى أتجنّب رأياً مجاملاً أو منافقاً. الحيرة طبيعيّة لمَن، مثلي، لا ينطلق من ثوابت إيديولوجيّة.
في هذه الحالات (وفي غيرها طبعاً على صعيد آخر) أشعر بأن الزمن يسبقني وبأنّي أخون واجبي. الاتكاء على الكليشيهات يساعد، ولكنْ إذا كانت تُناسب أوضاعاً عاديّة فإنها لا تليق بحالات غير عاديّة.
يوم كنتُ معتزلاً الكتابة الصريحة كنت معفىً من هذا الشعور بالتقصير. ولكن مَن يستطيع مساعدة كاتب يعرف أنه يجب أن يقول في ظرفٍ ما شيئاً ولا يعرف ما هو هذا الشيء؟


< التحت فوق
تُظهر الكلاب لأصحابها من المودّة ما لا يستحقّونه. لن يُقدّر الإنسان تواضع الكلب (والبَقَرة والحمار والنعجة إلخ...) إلاّ يومَ تنقلب الأدوار وتصبح هذه الحيوانات الأموميّة الحنونة هي السيّدة الحاكمة ونصير نحن البشر حيوانات نأتمر بها.


< إنسانيّة العصفور
أكانت العصافير تنطلق تغريداً مع الصباح لو لم يطربها ذلك؟ لم يسألها أحد الغناء. أمام نافذتي حائط مبنى ليس فيه شبّاك ولا عشبة. فيه كوىً صغيرة تحطّ عليها عصافير تتبادل القُبَل، وتغنّي كالمجنونة.
لمَن تغنّي العصافير؟ بالصدفة يسمعها مَن يسمعها.
لا تغنّي إلاّ لنفسها. صوتها يوسّع الهواء أو يُنَحّفه على شاكلتها، ولكنّها في كلّ الأحوال حرّة. مزاجها الضاحك يدشّن النهار ونصْفُهُ بَعْدُ ليل، وجمهورها آذانها.
كلّما جيء على ذكر العصفور تحوّل الكلام ناحية النعومة. لا شكّ. مع أنه يُخفي حقيقة ثانية، هي قوّة هذا اللاعب الصغير.
الديك يعلن نهار العمل. العصفور يفتتح نهار النزهة. النثر والشعر. اللهاث والغناء.
العصفور برهان الفنّ المجاني، وبرهان إنسانية يفترضها الإنسان في جنسه هو وغالباً ما نجدها أفضل عند بعض الحيوانات.


< مَن يأخذ مَن
لا تعود تعرف مَن يأخذ مَن إلى أين!
إحدى الباطنيّات في الشاعر أو الموسيقي ناشر الفرح أو داعية المحبّة، ضحكه في ذقنه بعد أن يُسعدنا. لاحِظْه. ليس هو مَن كتب هذا الحبّ، ليس هو مَن صنع هذا الفرح. الخلاّق طبقتان...


< كيف؟
ما دامت المعتقدات قائمة على التسليم بـ«حقيقة» أمور غير مُثْبتة إلاّ بفضل الركون إلى تلك المعتقدات، فكيف تكون حريّة؟ بل كيف يكون بحث؟ بل كيف يُتَجرّأ على التلفّظ بكلمات من نوع تقدُّم، تغيير؟


< لقاء
جاء إليها كما يذهب التائه إلى المرشد حين التائه عاصٍ والمرشد أَعصى... كي يتبادلا الاغتراب لا التوبة. وَجَدَ فيها تمامه ولم تدرك ما وجد فيها، أمّا هي فلازمه شعور بأنّها آثرتْ فيه ما يريد نسيانه.
المتلاقيان بفضل الفضائل قد ينصهران في بوتقة الفراغ... المتلاقيان فوق أمواج المخالفة يعومان معاً كتوأمين، ولكنْ بعد حين ينأى بنفسه الأضعفُ فلا يغرقان معاً...


< تَوقَّف
معرفة مقدار الانتظار عند الآخر. أن لا يَعْبر عليه النظر دون أَخْذ العلْم. أن يُتَوقَّف عند هذا الانتظار كما يُتوقَّف أمام حَدَث، أمام خطر، أمام مفترق طرق يجهل السائحُ اتجاهاتها.


< أَن تَمْتحن الجبل
لعلّ هذا ما تبحث عنه، أيّها العزيز.
لا أن يبقى بلدك، أو يعود، ولا أن تتفرّج عليه يضيع جزءاً بعد جزء،
ولا أن تهاجر ولا أن تَتَمسّك
ولا أن تراقب النجوم التي لا تبالي
بل أن تمتحن الجبل الذي فوق رأسك
فإمّا يَثْبت في مكانه وتنساه، وإمّا يُشَلّق ويتساقط مثل صنّين في الأغنية،
يُشلّق ويَرجمك بصخوره
يُشَلّق ويتدحرج كهدير الجواب...
الجواب الذي لم يكن سيعرف نفسه ويهجم عليك، لو لم تستنطقه...


< عابرات
عجباً! وجدتُ في الصغار ما أتعلّمه، وحين يُطلب منّي تعليمهم أحسّ بارتباك مَن سيشارك في مؤامرة!

نسيتُ لهذا الرجل حسناته ولم أحفظ له غير إساءة: فقد كانت مثل بقعة النور وسط طريق الحسنات المملّ والعديم المعالم.

حين يكون المطلوب واحداً يصبح كلّ شيء مباحاً لتأمين المطلوب، تحت طائلة الجبن أو القداسة.

بين الواقع وبيني صورةٌ تَحْرث أرضي. قد يكون الأصل في أي مكان ويفعل أيّ شيء لكنّ صورته لا تكفّ عن حراثة أرضي...

فاقد الشيء قد يُعطي أفضل منه.

أسْهَلُ عليكَ أن تحبّ الآخر عن طريق معرفة كراهياته من أن تحبّه عن طريق مَحبّاته.