خالد صاغية
نقف بعد أحداث مار مخايل أمام السعار الطائفي من جديد، تنزلق إليه المعارضة والموالاة بالخفّة نفسها.
فمن جهة، لم يُثر مقتل بعض المواطنين بالرصاص حفيظة السلطة الناطقة باسم الشعب اللبناني. فالقتلى ينتمون إلى طائفة لم يترك فريق السلطة مناسبة إلا حرّض عليها، مستنداً إلى تاريخ من التهميش مارسه النظام اللبناني ضدّ هذه الطائفة. فجرى التعامل مع قتل هؤلاء المحتجّين الفقراء، كما لو أنّه «جزاء» يستحقّونه. واستنفر بعض الموالاة ليزيد في التحريض الطائفي، مستنهضاً أبناء ضاحية عين الرمّانة المسيحيّين ضدّ أبناء ضاحية الشيّاح الشيعة، آملاً أن يشكّل ذلك بداية انهيار التفاهم السياسي بين الحزب الممثّل للأغلبية المسيحية والحزب الممثّل للأغلبية الشيعيّة. نحن هنا أمام طائفية من النوع الصافي.
من جهة أخرى، نهض فريق المعارضة ليدين التحريض الطائفي بين الضاحيتين، موحياً بأنّ طلاسم «وثيقة التفاهم» أو سحر قدّاس في مار مخايل يشترك فيه المسيحيّون والشيعة ـــــ وهم، بالمناسبة، إخوة ـــــ كفيلة بتقديم البرهان القاطع على انتفاء روائح الطائفية. إلا أنّ ما يبدو لدى المعارضة إدانة للتحريض الطائفي الذي مارسته الموالاة فعلاً، ليس في الواقع إلا وجهاً آخر من وجوه الطائفيّة، وإن كانت من النوع الأقلّ صراحة.
ذات يوم، تحدّث أحد القادة الماركسيّين عن التناقضات الطبقيّة الجوهريّة والتناقضات الطبقيّة الثانوية. كان يبغي من وراء ذلك إجازة التحالف بين طبقة العمّال وطبقة الفلاحين رغم التناقض «الثانوي» بينهما، وتحريم التحالف بين الفلاحين وطبقة ملّاك الأراضي، إذ يسود بين هاتين الطبقتين التناقض «الجوهري».
تقوم المعارضة والموالاة اليوم بلعبة شبيهة، إذ تعتبر المعارضة التناقض الطائفي الشيعي ـــــ المسيحي ثانويّاً، ما يوجب كتمه، إنّما لمصلحة تأجيج تناقض طائفي جوهري مع طائفتين أخريين (السنّة والدروز). وكلّما طفا إلى السطح هذا التناقض الثانوي، عمل طرفا «ورقة التفاهم» على كتمه، وعمل الفريق الآخر على نفخ النار فيه.
الأمر نفسه يحصل حين يطفو على السطح التناقض الطائفي بين مكوّنات فريق الموالاة. فمع تبنّي ترشيح العماد ميشال سليمان للرئاسة، وإعلان هذا التبنّي على لسان نائب تيّار «المستقبل» عمّار الحوري، ارتفع إلى السطح التناقض بين «مسيحيّي 14 آذار» وسنّة هذا الفريق ودروزه. عملت الموالاة على كتم هذا التناقض باعتباره ثانوياً، والتفرّغ للتناقض الطائفي الكبير، فيما نفخت المعارضة في هذا التناقض الطائفي، داعية المسيحيين إلى ترك هذا المعسكر والالتحاق بمعسكر «وثيقة التفاهم» حيث المسيحيّون مسموعو الصوت، أي حيث التناقض الطائفي بين الطرف المسلم والطرف المسيحي مكتوم.
لقد بدأت هذه اللعبة مع انتفاضة 14 آذار. يومها، أراد تجمّع من الطوائف أن يختزل اللبنانيين جميعاً، وأن تَغفل عدسات الكاميرات الحماسيّة عن التناقضات الطائفية «الثانويّة». بعد حرب تمّوز، ابتدعت المعارضة شعار «المعارضة الوطنيّة اللبنانيّة»، آملة من الكاميرات نفسها أن تسهو عن التناقضات «الثانوية» نفسها. الفارق أنّ المعارضة لم تحاول اختزال اللبنانيين، فاعترفت دائماً بالفريق الآخر، وإن كانت فعلت ذلك لتَرجُمه بتُهم كانت قد استُخدِمت ضدّها.
أعادت جريمة مار مخايل السعار الطائفي إلى الواجهة. من جهة، تُكتَم هواجس طائفيّة قد تتفجّر مضاعَفة بعد حين. ومن جهة أخرى، ثمّة إذكاء لنار طائفيّة يحاول الآخر كتمها، تحت ستار مشروع وطنيّ تختلف تسميته بين الموالاة والمعارضة.
الطرفان شريكان في رقصة الموت هذه. الطرفان يشاهدان البلاد منقادة إلى حرب أهليّة، فيشيحان النظر إلى مكان آخر.