strong>بيسان طي
غداً تستعيد مكتبة «أنطوان» في الأشرفية حلتها القديمة. ستعود إلى يومياتها كما كانت، وتزيح من أمام الكتب تلك اللوحات التي زيّنت المكتبة لمدة شهر... فاليوم يختتم معرض لوحات ألان طاسو الذي أُقيم في المكتبة.
في كل مكان توزعت اللوحات. على الرفوف، بين الكتب، على الجدران الملاصقة للدرج، في الطابق الأول، وفي الطابق السفلي. إنه حوار بين النتاجات الأدبية والرسم، حوار استمر شهراً بين كلمات مطبوعة وأخرى مرسومة. إنه المعرض الذي أراده صاحبه مراسلات بين الشعر والرسم، أن «نقرأ الشعر ونشاهد الرسم» يقول طاسو الشاعر والرسام الذي لم يختر لمعرضه عنواناً.
هكذا وسط التجاذبات السياسية، بل التوتر الذي يعيشه اللبنانيون، رغم انكفاء الجمهور عن التظاهرات الثقافية، قرر بعض الفنانين أن يقدموا نتاجاتهم. عادت الحياة إلى خشبات بعض المسارح، وانتشرت ألبومات موسيقيين مهمين... ألان طاسو واحد من هؤلاء، أقام معرضه «رغم التوتر، لأن الأزمات يجب أن تعجز عن منع الفنان من العمل».
مع اللوحات صار للمكتبة شكل جديد، وصار للمكان بالطبع وظيفة أخرى، المكتبة ـــــ المعرض اتسعت لزوار جدد، عشاق الرسم مع عشاق الكلمة في فسحة واحدة، بل أخذ المعرض عشاق القراءة إلى فضائه الخاص. اللوحات هنا تعلن حضورها القوي، لا يمكن ألّا تتوقف أمامها، لا يمكن أياً كان أن يتجاهلها، تجذب اللوحات النظر إليها، ثم تتحدى الناظر إليها، فطاسو لا يقدم أعمالاً «سهلة» أو مباشرة، إنها لوحات تحتمل قراءات مختلفة. يقول طاسو: «ليس علينا أن نفهم»، إنه الإعجاب بما نرى ما يحرك حيرتنا، ويدفعنا إلى البحث عن مغزى ما نقرأ في اللوحات ونشاهد في القصائد، وربما تقصد الفنان أن يحيّر جمهوره، فلم يضع طاسو عناوين للوحاته. هو بذلك يعطي للخيال ـــــ أي خيال ـــــ الحرية الكاملة، فالعناوين تفرض علينا أحياناً قراءات محددة للعمل.
اختلط عشاق الرسم بمحبي المطالعة، وقد جاء اختيار المكان لتأكيد العلاقة بين الأدب والفنان. وفي بعض اللوحات المرسومة بالأسود على خلفية بيضاء، لم يرسم طاسو خطوطاً، بل رسم بحروف عربية، ووضع في المعرض عشرات اللوحات هي بعض نتاجاته منذ عام 1996، بعضها لوحات زيتية، وفي لوحات أخرى استخدم الأحبار الصينية، بل إن طاسو يلفت إلى أنه في بعض اللوحات يستخدم أدوات اخترعها هو. هكذا يمكن زائر المعرض أن يتتبع مساره، المنتقل من الصوفية إلى التعبيرية، إلى تكثيف في معاني الرسم، إلى التجريد...
في معظم ما عرض في مكتبة أنطوان رسم طاسو على أوراق من القطن الطبيعي 100% papier pur coton، وفي اللوحات يطغى اللون الأسود، وإن كانت لعبة الضوء والظلال (le clair obscur) من التقنيات المعتمدة في بعض الأعمال. ثم تتجه خطوطه إلى الأعلى لتعكس مسارات معانٍ تتشكل وتتطور تصاعداً «نحو حوار» بين اللبنانيين أو بين الناس بشكل عام، وهي أيضاً دعوة دائمة للبدء من جديد.
لماذا الأسود ينتصر في لوحات المعرض؟ يقول طاسو إن جميع الألوان تجتمع في هذا اللون، وفيه الحياة أو حيوية، ولأن «الموت يعلمني ويجعلني أكثر إنسانية»، وفي بعض لوحات المعرض تعبيرية «عنيفة» (كما في بعض كتابات طاسو نفسه) هي رفض لواقع الإنسان اليوم الذي يستسلم لاستنتاجات وقراءات تنتج من نظرة أولى ومسطحة للأشياء وللجمال وللأعمال الفنية والثقافية.
ثمة مفاجأة أخرى خبأها المعرض لزواره، وهذه المفاجأة تكمن تحديداً في استخدامه المكثف للحرف العربي، فطاسو يكتب قصائده باللغة الفرنسية، وهو بهذا التكثيف لاستخدام لغتين إنما يظهر مصالحته مع كل منهما، فهو من الفرنكوفونيين القلائل في لبنان الذين يعلنون انتماءً حقيقياً آخر إلى الشرق، أو يدعو إلى تكامل بين اللغتين العربية والفرنسية.
غداً، ستسحب اللوحات إذاً، ويبدأ الكلام جدياً على مدى نجاح المعرض في الإسهام في الحوار الضروري بين الكتاب واللوحة، كوسيطتين أساسيتين لتطور حقيقي ولعالم يفوز فيه العمل الجميل.