strong>رنا حايك
يبدأ اليوم في مسرح غولبنكيان في «الجامعة اللبنانية الأميركية» عرض مسرحية «انقفال» وهو العنوان الذي اختاره مخرج العمل ناجي صوراتي ترجمةً للمصطلح اليوناني en’kephale الذي يعني «داخل الجمجمة».
يدور العالم بأسره داخل الجمجمة. يتداخل الواقع بالافتراضي على جميع الأصعدة في المجتمعات الحديثة لينصب ذلك التداخل فخاً يقع فيه الإنسان طوعاً خلال محاولته الانعتاق من وضعه البشري.
كالعادة، ينطلق صوراتي، مع الطلاب المشاركين في مسرحياته الآتين من مختلف الجامعات اللبنانية، من قضية أو من عنوان عريض ليتبلور العرض المسرحي من خلال ارتجالات الممثلين وتدريباتهم واقتراحاتهم.
هذه المرة، انطلق المخرج من فكرة الاغتراب، من ثنائية العزلة والبحث عن الآخر، من تضاد الحقيقي والافتراضي، من الحالات الملتبسة بين الوعي واللاوعي، ليقع، خلال بحثه، في الشرك ذاته الذي يتناوله.
في هذا الشرك، سقط الكلام. ففي الفن، كما في الحب، كما يقول الكاتب الفرنسي أناتول فرانس، «الحدس يكفي». «خلص الحكي» يقول ناجي لـ«الأخبار»، أستاذ المسرح، الذي استعاض منذ سنتين في أعماله عن الكلام بالموسيقى وشحنات الممثلين الشعورية على المسرح. فـ«في لبنان، كما في العالم، ينسج كل منا شركه الخاص، كالعنكبوت، ويعلق فيه» يضيف صوراتي.
يرقص الممثلون على المسرح، يضحكون ويصدرون الأصوات المستكينة حيناً والصاخبة الهستيرية أحياناً، يقترفون الجرائم ويعشقون ويبحثون عن ذواتهم وعن الآخر، يبنون شرانقهم الخاصة ثم يهدمونها.
ألا يحدث ذلك في حياة كل منا؟ وفي عالم الإنترنت الذي يغرق فيه الشباب واهمين، كما يسوّق لهم، بالتواصل فإذ به يعزلهم، ألا يحدث في تناولهم المخدرات، وفي حالات الاكتئاب التي يعانون منها فتحبسهم في حالة اللامكان واللازمان؟
في إحدى الأساطير القديمة، اختار الإله من الحشرات العنكبوت ومنحه امتياز حراسة البشر فزوّده بثماني عيون. في الكتب الدينية، أنقذ العنكبوت دايفيد والمسيح ومحمد حين نسج خيوطه على أبواب ملاجئهم. أما على خشبة مسرح غولبنكيان، فـ25 ممثلاً في جلد عنكبوت يخلقون مساحاتهم الخاصة «في عالم علقوا فيه»، يستكشفون ذواتهم و«الأنا الثانية» alter ego يحتوونه ويشركونه وهو ليس سوى صورة متخيلة، في مساحاتهم التي هي مجرد فخاخ، مثل العالم الذي يحيون فيه. أوهام لا تلبث أن تسقط. فهل من شيء يستحق العيش؟ وفي المقابل، هل من شيء يستحق الموت؟ لا ترمي المسرحية إلى إيجاد الأجوبة. لا تبشّر بالحياة ولا تنذر بالموت. «انقفال» تكتفي بنقل حالة شعورية تنتاب الإنسان والعالم اليوم عبر تجسيد الفخاخ التي يعلق بها الإثنان على خشبة المسرح. ذلك المسرح الذي يقع خارج حدود الزمان والمكان، تعطّلت فيه لغة الكلام فاستعان بالصوت والضوء وسيلة للتفاعل على عتبة الشعور.
ففي النهاية، لسنا، جميعاً، سوى كتلة من الذبذبات كما يقول صوراتي. فـ«ذبذبات الضوء تحدد المكان، وترددات الصوت تحدد الزمان، والطاقات البشرية، باهتزازاتها، تظل أصدق من الكلام، لأنها تنقل المشاعر كما هي والمخلوقات تنوجد فقط عبر المشاعر التي غالباً ما تكون ملتبسة وبينيّة على صورة العالم والإنسان فيعجز الكلام عن نقلها بشفافية».
تستمرّ عروض المسرحية يومياً حتى العشرين من الشهر الجاري على خشبة مسرح «غولبنكيان» في «الجامعة اللبنانية الأميركية» ما عدا أيام 14 و15و16 منه. تبدأ العروض في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً.