أنسي الحاج
موقف الزعيم

أوّل شروط الزعامة أن يقوى الزعيم على غرائز شعبه، وأن يعاكسه حين يلزم.
على قياسنا اللبناني تُذْكَر بضعة مواقف من هذا العيار لصائب سلام، ريمون إده، كمال جنبلاط. في باب معاكسة الغريزة، تَحالُف ميشال عون مع «حزب الله». المنطق الغريزي كان يدعوه لركوب الموجة «المسيحيّة» ثم اللبنانويّة الصاعدة مع هدير الصخب ضدّ الحكم السوري. عوض هذا جازف بكلّ رصيده ومدّ يده إلى «حزب الله». إنه موقف الزعيم الذي لا يخشى إغضاب قاعدته. مثل هذا العيار نادر بين زعماء العالم الثالث حيث حتّى النخبة تضعف أمام مَيْل الجماهير.
وصول عون إلى السلطة أو عدم وصوله ليسا غاية ولا هما محكّ. نحن نعتقد أن هذا الرجل المغيظ للمجتمع السياسي كان، لو رُئّس، سيحاول أن يحقّق أعمالاً كبيرة، إن لم يكن لشيء فلأنّه يعرف مدى المراهنات على فشله. مستحيل أن يسفر هذا الطموح الهائل إلى السلطة عن فراغ. شَغَفٌ كهذا يوصل بعيداً، إن أُحْسِن حفظه من الجنوح.
غير مهمّ. ليأتِ سواه إنْ حُلّت بسواه، وعليه هو قبل غيره أن يسهّل الحلّ ما دام حظّه بالوصول غير متوافر، بصرف النظر عن تقييم العوامل المتضافرة ضدّه، وبعضها ظالم دون شكّ. لقد حفظ عون بتحالفه مع «حزب الله» ومع سائر المحسوبين على سوريا وإيران وحدة الشعب اللبناني وأدخلَ عنصراً جديداً إلى العقل المسيحي إدخالاً لن يقدر الطائفيّون من أيّ دين كانوا أن يقفزوا فوقه بعد اليوم، وهو أن الزعيم من حقّه ومن واجبه وفي قدرته أن يعاكس اتجاه قاعدته ويذهب بها نحو ما لم يكن في حسبانها ولا من عاداتها، لا عندما تضطره ظروف التحالف والتخاصم إلى ذلك فحسب بل عندما يعتقد أن تصرّفه «الهجين» هذا يحفظ وحدة البلاد وسلامها الأهلي.
أيّاً يكن العهد الجديد فإن التعاهد المسيحي ـــــ الشيعي الذي حصل والذي صَمَد، يلاقيه (ولو رغماً عنه وعنهما معاً) التصالح القواتي ـــــ الكتائبي ـــــ الجنبلاطي ـــــ السنّي من الجهة الأخرى، هو العهد الجديد في الجغرافيا السياسيّة. ما كان يجوز إلقاء الشيعة في أحضان سوريا ـــــ إيران نهائيّاً ولا رمي المسيحيّين في غيتو انعزالي واحد بحجّة «وحدة الصف»، وقد تحقّق تحاشي الفخّين. ويجب السهر على هذا الإنجاز وتطويره علمانيّاً، بالمزيد من التخالط والانفتاح، وباندماج «حزب الله» سلاحاً وسياسة اندماجاً كليّاً في المؤسسة اللبنانية.
الزعماء الحقيقيّون غالباً ما تكرههم قبائلهم في البداية. والقوّة الحقيقيّة لا تستمدّ طاقتها من تدويم الخصومة بل من لحظات نشوة الحياة التي تزيدها إنتاجاً للحياة ورغبة فيها.




«احمونا!»

أفْرَزَ الخوف (من سوريا، من الميليشيات، من «الأجهزة»...) ألوف المقالات، لا عن الخوف، لا عن سببه، وإنما عن قضايا أخرى تماماً لا علاقة لها بالموضوع، من غاياتها تطمين الجهة المخيفة إلى كون الكاتب سيحكي عن أيّ شيء إلا عن رأيه السلبي في تلك الجهة، وسيشتم نفسه وأهله لأنهم تجاسروا أن يكونوا ضحايا وسيهاجم السماء والأرض ولن يرشق مخيفيه بوردة.
طبعاً كان أولى بهذه الأقلام أن تنكسر ولا تُخادع، ولكن دواعي الارتزاق وعناصر الإغراء كانت أقوى. وهكذا تراكم تراث ضخم من الكتابات التي يمكن أن نطلق عليها اسم «مقالات الهرب من الموضوع».
قبل انفجار مؤامرة 1975 كانت الأقلام تقود الرأي، وقبل الازدهار النفطي ومضاعفاته التعهيريّة كانت الصحف تحاول أن تكون مراصد للرقابة المعنويّة ومنابر للتوجيه والتثقيف. منذ 1975، يوم بدأت تنهمر شلّالات الإرهاب قبل أن تتصفّى تدريجيّاً وتندمج في هيئة أو هيئتين كبريين لا تَقْبلان الجدل، بات «الإعلام» ينتظر أن يصرّح السياسيّون كي يختبئ وراء كلامهم. صار الرأي مناشدة عاطفيّة والفاعل، عند القصف «العشوائي» و«المجنون» أو عند الخطف والقَتْل، مجهولاً. عُتّم على اللغة. كان القلم يحمل المشعل وصار، في أجرأ الحالات، يحمل التهديد بحمل المشعل، وفي معظم الحالات صكّ التنازل عنه.
يقال إن الصحافة كانت حرفة وابتداءً من ستّينات القرن العشرين أضحت صناعة. الحقيقة أنها كانت رسالة وصيّرها الإرهاب مباراة في براعة التحايل على الموضوع. لا نتحدث عن الصحافة الحزبيّة، هذه دائماً منحازة هنا أو هناك ولا تُعيّر بنقص موضوعيّتها. نتحدّث عن الصحافة «المستقلّة»، عن الإعلام «الحرّ». أقصى ما توصّلا إليه خلال الحروب اللبنانيّة هو «الترفُّع» عن اتخاذ موقف صريح وترويج العموميّات الأخلاقيّة التي تدين الجميع أي لا تدين أحداً. استمرّت الحروب لأن أحداً لم يُسَمِّ مُركّبيها ومموّليها بأسمائهم.
الخوف، ولكن أيضاً المنفعة. «امشوا على بيض تَسْلموا»، «امشوا على بيض نساعدكم». المشي على الحقائق هو في بعض الظروف أشدّ فتكاً من القتل وأبعد مدى بكثير. الصحافة لم تكن سبباً من أسباب الحرب بل كانت أحد أسباب استمرارها. التعامل بالحقائق تعامل بالدم. حين يدخل التلاعب الحقولَ المنزَّهة يصبح البغاء، حيال ذلك، لعبة أطفال.
تكراراً: فكّ دم الحريري الكثير من العقد وانفتحت صدور وانغلقت صدور. ولكن الزمن أخذ يعيد الأمور إلى حالها السابقة. عادت الكلمات تتجعّد و«الحقائق» تصنع الوجوه ذات العين الواحدة. استعاد النفاق سطوته والكلمات فراغها.
إنه الآن خوف من نوع آخر يصنع المقالات، خوف يغزله الملل، والفقر، واليأس. خوف ينسجه ترقُّب عودة المخيفين وثأرهم ممّن ناوأهم. خوف ينسجه ذكاء المحترفين. خوف يصنعه تراث قديم من الممالأة ومعرفة اتجاه الريح. خوف البارعين في الكتابة إلى الأبد وفي الكتابة المشوّقة والألمعيّة إلى الأبد والدَوَران حول الموضوع والهرب منه إلى الأبد. الخوف الذي يوفّر أضمن الحصانات لزارعي الخوف.
لا يزال يتردّد في الهواء نداء الاستغاثة الذي أطلقه وليد جنبلاط ذات يوم قبل ثلاثة أعوام: «احمونا! احمونا! نناشد العالم أن يَحْمينا!»...




الفجوة

التعبير الصحيح ليس ضيعان هذا الحب بهذا الشخص أو ذاك. ليس هذا هو موضع الألم. يجب البحث في مكان آخر.
ربّما في نظام الحبّ، جينات العلاقة، طاقة العيون على الاحتفاظ بغشاوة التجميل، ربّما حدود الجسد.
أمْ لعلّها العين، تلك الأكثر التهاماً ممّا تحتمله باقي تكوينات الجسد والروح والمجتمع والقانون.
فجوةٌ لم يملأها بعد غير عدم الدراية بها. تستحضرها الكلمة، الصورة، المفهوم، ولكن أنّى لهذه كلّها أن تحيط بأغوار فجوةٍ يَنْطق جرحُها بالخديعة الكبرى، بلوعاتها ورماد الأعمار المطمورة فيها. فجوة معايشة الإخفاق لا كقَدَر فحسب بل كواجب أخلاقيّ طبيعيّ.




عابرات

• لنشعر بالامتنان حيال الذين يولون المظاهر اهتماماً بالغاً، فهم ينعشون الأمل بوجود «فراغ حيّ». فراغ تفاهتهم وفراغ أهدافهم. وأنت القادم، ربّما، على انحدارٍ مماثل، قد ترتدع حين تلمس بيدك الساخنة جليد خواء هؤلاء المنهمكين.
• يختلط الأمر على ذي الرغبة كما يختلط على ذي الطَلْبة. التوهُّم عند الثاني يفيد، قد يحمله الغلوّ فيه على استيلاد معجزة. التوهّم عند الأوّل غالباً ما يفضي إلى الوقوع على الرأس.
• ارسلي ذاكرتكِ تتملّى من ذلك التصرّف الأخرق، فتشعر أنّها رغم جنوحها لم تجترح إلا البداية، وأنها لم تُقِم علاقة بل علّقتْ إقامةً بين
لحظتين.
• «حين شاهدتكَ أوّل مرّة عرفتُ أنّكَ واحد من الذين أعرفهم بين أولئك الذين لا أعرفهم»...
• الرغبة مَصْيَدة عمياء يقع فيها الصيّاد معتقداً أنّ ارتطامه بقعرها هو الطريدة.
• «يستحيل على المرء أن يكون صادقاً ويظهر ذلك عليه». (أندريه جيد).
• «لا شيء أكثر التصاقاً بالحكمة من الصدق». (أفلاطون).
• «عليك بالصدق وإن قَتَلك». (عمر بن الخطّاب).
• «الصدق الذي يُقال بقصد سيّئ هو أقبح من الكذب». (وليم بليك).