البرازيل ـــ بول أشقر
عندما التقيته منذ عشرين سنة في مكتبه، آخر طابق في بناية على جادة كوباكابانا، المطل على الأطلسي، سألني عن أحوال لبنان وحَزِن جداً عندما عرف أن «معرض طرابلس» الذي بناه في نهاية الستينيات مقفل... ثم سألني عن فندق السان جورج، مكان إقامته السابق في لبنان، فأجبته بأنه عانى كثيراً خلال الحرب وأنه على الأرجح سيصار إلى بناء فندق آخر محلّه. فانتفض الرجل الثمانيني كولد صغير غاضب وقال لي بإصرار وجدية: «لا، هذا حرام... قل لهم في لبنان بأنني مستعد لإعادة ترميمه كما كان... وبدون أجر». المهندس الذي غيّر مقاييس الذوق الهندسي في البرازيل وفي كل أرجاء العالم، والذي أدخل النمط «المتحرر» والحديث الى فنّ العمارة، ما زال متعلّقاً بكل «تحفة» بناها لغاية الآن. وها هو يحتفل (يوم السبت الفائت) بعيد ميلاده المئة، في منزله بين رفاقه وأصدقائه، ويشرب نخب مسيرة معمارية تحديثية لا تزال فاعلة ومبدعة بعد مدة من الزمن.
ولد أوسكار نيميير في ريو دي جانيرو بين مباني «الباطون المسلح» في 15 كانون الأول 1907، ورأى في «الباطون» مادة الحاضر والمستقبل «لقدرتها على مطاوعة الخيال» فهي التي سمحت له بترجمة أشكال الجبال والأمواج والنساء المخزونة في مخيلته، وجعلت منه مهندس المنحنيات. فتميزت مبانيه من مجالس، ومتاحف، وساحات بالضخامة، لكنها ضخامة تتفاعل مع الطبيعة المحيطة بها ولا تثقل عليها. عايش نيميير أحداثاً تاريخية كبرى من الثورة الروسية (1917) والحرب العالمية الثانية حيث انضمّ الى الحزب الشيوعي البرازيلي مع نهاية الحرب، ثم نفي الى أوروبا في عهد الحكم العسكري في البرازيل، وظلّ المهندس متمسكاً بقناعاته وقد سجل له قبل سنة قوله: «أنا وفيديل كاسترو آخر شيوعيين في أميركا اللاتينية». متمتعاً بصحّة جيدة، ما زال نيميير يمارس عمله الذي زادت وتيرته في الآونة الأخيرة، فهو يعمل في هذه الأثناء على مركز ثقافي لافت في إسبانيا، ونصب لـ«المحرر» سيمون بوليفار في فنزويلا.
بدأ أوسكار نيميير سيرته الهندسية متأثراً بـ «لو كوبوزييه». وقد عمل الرجلان معاً في مشروعين جماعيين، واحد في الأربعينات لبناء مقر وزارة الصحة في ريو دي جانيرو، والآخر في بداية الخمسينيات لبناء مقر الأمم المتحدة في نيويورك. ودعاه الرئيس جوسيلينو كوبيتشيك، لتصميم أغلب المنشآت العامة في برازيليا. وتمثّل تلك المباني اليوم أشهر وأكبر الآثار التي وقّعها المهندس «الثوري» في البرازيل. وفي فترة نفيه الى أوروبا، بنى نيميير في فرنسا المركز الثقافي في مدينة لو هافر ومقر الحزب الشيوعي في باريس. ومن أعماله المعبّرة عن فنه الخاص «الذي لا يشبه عمل أحد» جامعة الجزائر، الذي قدمه للرئيس بومدين لكنه لم ينفّذ ولا يزال نيميير يأسف عليه لغاية الآن.
وبعد مشاركته في معارض حول العالم، وحصوله على جوائز تقديرية عدّة، كان أهمها جائزة لينين للسلام عام 1963، منحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً «وسام الصداقة» تقديراً لأعماله وإبداعاته.
وفي «زحمة» الجوائز والأوسمة لعلّ أهم ما يبقى لنيميير هو إبداعه الذي جعل من بعض المدن رمزاً للحداثة والتميّز المعماري.